العدد 2263 - السبت 15 نوفمبر 2008م الموافق 16 ذي القعدة 1429هـ

... وداوني بالتي كانت هي الداء

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يرجح ألا تتوصل القمة الاقتصادية التي أنهت أعمالها في واشنطن أمس بحضور زعماء 20 دولة إلى توافقات نهائية بشأن معالجة الأزمة المالية التي عصفت بالأسواق ومسحت من شاشات البورصات العالمية نحو 30 تريليون دولار. فالأزمة كما يبدو أكبر من كل التقديرات ويرجح أن تستمر إلى فترة ثلاث سنوات ما يرفع من نسبة التوقعات التي تتخوف من انعكاسها على النمو واحتمال إصابة القطاعات المنتجة بالركود.

عدم التوافق على قرار نهائي موحد والاكتفاء باقتراحات جزئية سيدفعان إلى تأجيل حل الأزمة وربما تعريض الأسواق إلى مزيد من الضغوط في حال تواصل الاختلاف على معالجة التَّدهور. الولايات المتحدة ترفض الاعتراف بالأسباب التي أدت إلى الانهيار واكتفت بطرح صيغ تعالج النتائج ما واجه اعتراضات من معظم الدُّول المشاركة في القمة. أوروبا انقسمت في تعاملها مع الأزمة وتوزعت إلى فريقين: الأول يأخذ بوجهة نظر واشنطن الرافضة للحمائية مع تعديلات تطالب بتدخل طفيف من «الدولة» تعطي صلاحيات رقابية شفافة للمصارف المركزية حتى لا تتكرر الأخطاء والمغامرات والمقامرات. والثاني يرفض المعالجة الأميركية ويرى فيها خطوة ناقصة لا تمنع من تكرار الكارثة بعد خمس أو عشر سنوات. الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدَّول ترى أن المشكلة المالية لا يمكن حلها بالمال، وضخ النَّقد في الأسواق من دون تدخل لضبط آليات التَّداول قد يساهم في إنعاشٍ ظرفي لحركة البيع والشراء لكنه لا يكفي لإعادة تنشيط القطاعات المنتجة وتوفير المناخات الاستهلاكية.

القمة الاقتصادية في أميركا بدأت مالية وانتهت إلى «معركة أفكار» ما أعاد إلى واجهة النِّقاش تلك النظريات التي انهزمت سياسيّا في مطلع التسعينات من القرن الماضي وبررت لأصحاب إيديولوجيا السُّوق إطلاق تصوراتهم العشوائية من دون رقيب أو حسيب، ومن ثم الذهاب بعيدا في التعامل الفوضوي مع آليات خارجة على قوانين الاقتصاد الإنتاجي وتقاليده المحكومة بالحماية وضوابط التوفير (تراكم الثَّروة) وعصر النفقات والحد من ثقافة الاستهلاك.

معركة الأفكار هذه أدت إلى توليد توجهات تقوم على اعتماد سياسة توسيع «المشاركة» الدولية في المعالجة وتأخير التوافق على الحلول النهائية بانتظار أن تتوضح معالم الخط الأخير الذي ستصطدم به موجة الارتداد المالية.

توسيع المشاركة يعتبر خطوة إيجابية نسبيّا قياسا بالفترة السابقة. فالتوسيع الراهن أرسل إشارة تبدي الاستعداد للاعتراف بوجود قوى دولية وإقليمية صاعدة على المستويين الاقتصادي والمالي ما أعطى فرصة لدعوة الصين والهند والبرازيل والسعودية وغيرها من دول للمشاركة في بحث أزمة عالمية زعزعت اقتصادات أميركا وأوروبا وروسيا والدول الصناعية السَّبع. وهذا الاعتراف المبدئي يشكل خطوة أولية تفتح الباب أمام عصر سياسي جديد يحتمل في حال تطور إيجابيّا إلى الدفع نحو تأسيس «نظام دولي» يعتمد «التعددية القطبية» في عهد الرئيس المنتخب باراك أوباما.

توسيع المشاركة أهم نقطة حدثت في القمة الاقتصادية حتى لو لم تتوصل إلى التَّوافق النِّهائي على قواعد مشتركة لرؤية أسباب الأزمة والوسائل الكفيلة بمعالجتها. وتأجيل الحل النِّهائي لا يعني أن الأزمة ستغادر آليّا منطقة الانفجارات الصغيرة. فالأنفجار الكبير حصل، والحلول المقترحة لا يمكن أن تحتوي مشكلة تبدو أكبر من قدرة الدول المشاركة على معالجة تفرعاتها وتداعياتها.

المال والإنتاج

تأجيل الأزمة وتمديدها لن يؤخر أو يقدم المشكلة باعتبار أن الكارثة أخذت وقتها وجرفت معها ما تستطيعه. إلا أن التأجيل يفتح الباب مؤقتا لتداول الأفكار والمال. فمن جانب الأفكار تبدو المعركة الإيديولوجية عنيفة بين تيار يتمسك بنظرية حرية آليات السوق ويعتمد مبدأ «وداوني بالتي كانت هي الداء». وتيار يرى أن ضخ المال إلى السوق ليس علاجا كذلك إيداع الصناديق والمصارف الدولية الفائض من الرساميل لا يكفي لسد الحاجة وتغطية الثغرات. وبين رؤية المال يعالج أزمة المال ورؤية الاقتصاد المراقب يتكفل بمعالجة أزمة أسواق المال تشتد معركة فكرية يرجح أن تأخذ مداها من دون نتيجة لأن الفرقاء يعتمدون على قواعد نظرية وتجارب سابقة.

جانب الأفكار ليس هو السبب الوحيد لعدم توصل قمة واشنطن الاقتصادية إلى حل نهائي سريع وإنما هناك جانب المال وصعوبة الأزمة وضخامتها. فالانهيار غير مسبوق وفاق في تقديراته كل التصورات والاحتمالات ما جعل الاحتياطات النقدية المقدرة دوليا أقل بكثير من تلك الأرقام التي تبخرت من شاشات البورصة. فما هو مطلوب أعلى بدرجات مما هو متوافر في صناديق الدول. فالثروات النقدية المتراكمة في صناديق التوفير في الصين والهند والبرازيل والسعودية ودول الخليج العربية واليابان والاتحاد الأوروبي لا تستطيع مجتمعة أن تغطي العجز الهائل الذي عصف بالأسواق المالية. حتى روسيا وكندا وأميركا وكل الدول المشاركة في القمة التي تسيطر على 80 في المئة من الاقتصاد العالمي غير قادرة على تأمين المبالغ المالية التي تبخرت من شاشات البورصة في أسابيع. والاحتياطات النقدية المتوافرة الآن تقدر بنحو عشرة تريليونات وهي أقل من المطلوب دوليّا لتغطية أزمة السوق.

المشكلة إذا مركبة من إطارين: الأول فكري يؤخر إمكانات تسريع وتيرة الحل بسبب الاختلاف على تصويب وجهات النظر. والثاني مالي غير قادر على تلبية احتياجات الأزمة نظرا إلى ضخامة الأرقام الفلكية التي اختفت فجأة من الشاشات الملونة بالأحمر.

هذه المشكلة المركبة من إطارين ترفع من نسبة درجة القلق واحتمال تأخر المعالجات الجزئية في ضبط التوتر في أسواق دخلت في طور من التأزم النفسي الناجم أصلا عن ضعف في السيطرة. وتقلص إمكانات السيطرة يدفع الأزمة إلى المراوحة في مكانها ما يفتح المجال لدخول الركود إلى أسواق تعتمد على الاقتصادات الإنتاجية. الركود كما يبدو أصبح من الاحتمالات الواردة وتحديدا في المناطق التي تعتمد الإنتاج قاعدة للاقتصاد وتراهن على النمو المتواصل حتى يتوازن السوق بين البضاعة والاستهلاك. وهذا الاحتمال في حال تطور سلبيا في الشهور المقبلة ستتعرض الكثير من الاقتصادات المنتجة التي تميزت بها القوى الصاعدة لنكسات في درجات النمو ما يؤدي إلى نوع من الخلل في ميزان التجارة الدولي الأمر الذي ستترتب عليه أزمات اجتماعية داخلية.

أزمة المال التي انفجرت دفعة واحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي تتألف من حلقات مترابطة في سلسلة ما يؤدي إلى تصادم تموجاتها الاقتصادية بين الدوائر. فالعالم الرأسمالي الذي يعتمد على المال في تحديد موازين القوة أعطى عملياّ النقد سلطة عليا لتقرير مصير الحلقات الاقتصادية التي ترتكز على الإنتاج وتصريف البضاعة في أسواق الاستهلاك. وهذا التغيير الذي طرأ على الرأسمالية في طورها الأميركي الجديد نقل الاقتصاد من الإنتاج إلى المال وأعطى الحلقة الثانية موقع القيادة في تحريك آليات السوق. ولهذا السبب الانقلابي تبدو أزمة المال الحالية الأسوأ منذ عقود وتحتاج إلى معالجات جذرية تتجاوز نظرية «وداوني بالتي كانت هي الداء». فهذه الوسيلة التي اعتمدت سابقا للتغطية على انفجار الفقاعات المالية لم تعد قادرة على معالجة الأزمة الحالية بالطرق الملتوية. فالمال بحاجة إلى قاعدة إنتاج للاستقرار وحين تلجأ الأسواق إلى سياسة تبادل المال بالمال لمراكمة الثروة من دون وسيط اقتصادي يفصل بين الحلقات المترابطة يأخذ النَّقد وظائف إضافية وتصبح البورصات «الوهمية» معرضة للانهيار السريع. والسرعة في التدهور لا تقاس بالسرعة نفسها لمعاودة الصعود. فالنهوض عادة يحتاج إلى قوة مضاعفة للخروج من مطبات الهبوط. وهذا الأمر يتطلب الكثير من الشروط القاسية تبدو الولايات المتحدة الآن غير قادرة نفسيّا على الاعتراف بها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2263 - السبت 15 نوفمبر 2008م الموافق 16 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً