العدد 1768 - الإثنين 09 يوليو 2007م الموافق 23 جمادى الآخرة 1428هـ

«غراب» الاقتصاد

رحلة إلى بغداد (5)

علي الشريفي Ali.Alsherify [at] alwasatnews.com

-

كان مخططا للعراق أن يكون اقتصاده - أو هكذا قيل - حرا متطورا قادرا على النمو بخطوات متسارعة، وخصوصا بوجود الكميات الهائلة من النفط التي تعده بصاحب ثالث احتياطي في العالم، وأن العراق (بعد الاحتلال) سيخطو خطوات جريئة نحو الاعتماد على القطاع الخاص بعد أن كان القطاع العام (الدولة) يمثل الشريان الرئيسي لحركة السوق.

بعد الاحتلال مباشرة، أي خلال وجود الحاكم المدني في العراق بول بريمر، أوفدت الخارجية الأميركية مئات المتخصصين في رسم ملامح تحويل الاقتصاد العراقي وتنميته باتجاه ما يسمى «اقتصاد السوق»، وعقد هؤلاء المتخصصون ندوات مختلفة مع عدد كبير من التجار وأصحاب الأعمال؛ لشرح أبعاد التحوّل وآلية تشكيل قيم السوق الجديدة، وعلى رغم أن العراق لم يكن قبل الاحتلال بعيدا جدا عن هذه القيم، وخصوصا خلال سنوات الحصار الذي اعتمدت فيه أجهزة الدولة على القطاع الخاص في الصناعة عبر تنمية ودعم المصانع الصغيرة والتجارة والزراعة، متحولة بذلك عن مبدئها الاشتراكي المعلن، إلا أن الدولة العراقية الجديدة عمدت بتوجيه من بريمر إلى بيع ما تبقى من مصانع العراق التي كانت في فترة من الفترات قادرة على تصدير منتجاتها إلى الخارج ولاسيما منها الأسمنت والبتروكيماويات والكبريت والفوسفات وغيرها من المنتجات العراقية، للقطاع الخاص، بالإضافة إلى فتح جميع المنافذ أمام استيراد البضائع من دون أية رسوم جمركية أو ضرائب.

لقد أضرّت السياسات الاقتصادية الجديدة أهم عنصرين لاستقلال ونمو أية دولة هما الصناعة والزراعة، فالعراق الذي كان يعتمد خلال التسعينات على صناعته المحلية وقادرا أيضا على توفير ما معدله أكثر من 65 في المئة من سلته الغذائية، أصبح بفعل السياسات الجديدة يستورد كل شيء.

كان المتوقع من السياسات الاقتصادية المقترحة للعراق أن تنمي قابلياته الصناعية والتجارية وتمدها بوسائلَ تقنية حديثة قادرة على استيعاب الإمكانات الموجودة، بالإضافة إلى توفير فرص عمل جديدة يمكن أن تمتص جزءا كبيرا من المسلحين الذين صاروا فيما بعد ثقلا واضحا ومؤثرا على الاقتصاد العراقي.

لم يعد الآن في بغداد التي تعد عصب العراق بنفوسها التي تعادل ربع سكان البلد من تراه قادرا على ممارسة عمل خاص بسبب العمليات الإرهابية من جهة وعدم وجود دعم حقيقي لهذه السوق لا من ناحية الأمان ولا توفير الطاقة الضرورية لأي عمل حر، بل العكس تجد معظم العراقيين متجهين نحو العمل في وظائف الدولة التي صارت متخمة بالبطالة المقنعة.

قد يكون العامل الأمني المتردي والفساد المستشري داخل دوائر الدولة والحكومات الفاسدة المتعاقبة وعدم وجود كفاءات وخبرات اقتصادية على رأس المؤسسات الاقتصادية عقباتٍ أساسية أمام تطور الاقتصاد العراقي ونموه، ولكن ذلك لا يعفي الدور الخطير الذي لعبته السياسات الأميركية في تدمير البنيتين الزراعية والصناعية، فحولت العراق الغني بقدراته وبإمكاناته وبثرواته الغنية منذ القدم إلى دولة فاشلة على مستوى الاقتصاد على الأقل.

صحيح أن العراقيين كانوا بانتظار الخلاص من سياسات اقتصاد الدولة التي كانت أساس معاناة العراقيين، إلا أن السياسة الاقتصادية الجديدة شبّهها لي أحد أصحاب المطابع في بغداد بالقول: إنها مثل سياسة الغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس ففشل ونسي معها طريقة مشيته!

إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"

العدد 1768 - الإثنين 09 يوليو 2007م الموافق 23 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً