شريدة المعوشرجي وزير كويتي سابق للمواصلات وشئون مجلس الأمّة، عرف دهاليز السياسة الكويتية مباشرة من خلال موقعه كأمين عام سابق، وقبله بسنوات أمين عام مساعد في المطبخ السياسي الكويتي الذي ظل ساخنا لفترة طويلة ومازال، وهو مجلس الأمّة، ومن هناك فقد وازن السيد شريدة برؤية العين المباشرة بين الممكن والمستحيل في التجربة الكويتية، ومن هذه الزاوية تأتي أهمية الرسالة التي أرسلها إلى الجسم السياسي الكويتي باستقالته الأخيرة.
شريدة (مع حفظ الألقاب) سيدخل تاريخ السياسة الكويتية الحديثة، إنه الرجل الذي فهم السياسة في الكويت بمعناها الكامل وأراد بصورة فردية، أن يصحح بعضا من المسار الخاطئ، والذي إن استمر، من دون تفكير عميق ومستقل للتصحيح ستصبح التجربة ذاتها مكانا للتندر السلبي.
شريدة قدّم استقالته من الوزارة ؛لأن فريقه السياسي الذي دخل الوزارة بناء على مؤازرته وترشيحه، قد فشل في تقديم الدعم المتوقع له، إذ قرر ذلك الفريق أن يطرح الثقة في وزير زميل لشريدة، وهو الشيخ علي الجراح، وهذا معناه أن ذلك الفريق يتعامل مع السياسة كأفراد لا كمؤسسات، وشريدة يريد أن يتبنى العكس ؛لأنه الصحيح في الممارسة،ولأنه الصحيح لتقدم الأوطان.
تقديم الاستقالة من جهة، وقبولها من جهة أخرى، يقدّم إيجابية بالمعنى العملي للعمل العام. فليس من المقبول أن تشارك مجموعة سياسية في وزراة ( ائتلافية) (والوزارات الكويتية منذ فترة ائتلافية) مهما يكن تمثيل تلك المجموعة السياسية، ولا تقدم بعد ذلك الدعم للوزارة من خلال وزيرها المسمّى ذاك، ويعتبر هذا الموقف وهنَا مرضيا في التوافق السياسي، يخرج السياسة عن معناها المؤسسي المفروض أن تسير وتستمر فيه، إلى معنى فرادي مصلحي وساذج في آن معا.
قبل قرار المعوشرجي، كان العمل السياسي في الكويت (مصابا بانفصام) وهو مازال كذلك في معظم الممارسات. شريدة هو الاستثناء الذي أراد أن يعالج ذلك الانفصام بتقديم ممارسة سوية. وقد يكون عمله استثنائيا يؤسس لقاعدة في المستقبل، وقد يكون استثناء بالمعنى المباشر، أي ظاهرة فردية منعزلة لا تترك أي أثر.
إنما على المشتغلين بالسياسة في طرفيها في (المجلسين) ؛أي مجلس الأمّة والنشطاء السياسيين من جهة، والطرف الثاني الحكومة، عليهم جميعا أن يحاولا جاهدين أن يجعلا من ظاهرة (شريدة المعوشرجي) سابقة حتمية التأثير.
كيف يمكن أن يحدث ذلك، وهل يمكن أن يحدث ذلك في الجو السياسي السائد في الكويت؟
لنبدأ بالإجابة على الشق الثاني، وهو هل يمكن أن يحدث ذلك؟ أي تكون الظاهرة مؤثرة؟ حقيقة الأمر أشك كثيرا في أن تكون مؤثرة، نحتاج إلى أكثر من شريدة كي تتأكد الممارسة، وتدخل في صلب الفهم السياسي الكويتي والممارسة. ليس لسبب إلا لأن (الكتل) السياسية في البرلمان الكويتي اليوم وأمس، هي كتل (هلامية) الشكل، أي أنها (شخصانية) أما بقيادتها أو بإفرادها. فالانتقال من (كتلة سياسية) إلى أخرى مثل الانتقال من سيارة إلى أخرى، أو بسهولة تغيير الملابس نفسها.
ليس لهذه الكتل (برنامج) يحدد ويضبط سلوك منتسبيها السياسي في القضايا الرئيسية أو القضايا الفرعية، ويفرض على من يخرج عن البرنامج تبعات سياسية وأخلاقية. تلك واحدة، وهي ظاهرة هلامية تبعدنا عن احتمال تكوين أحزاب سياسية منضبطة بمعناها المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، أو ذات التجارب الناضجة، ترشد من العمل السياسي. كل التاريخ الديمقراطي في الكثير من الدول يقول لنا: إن التجربة تنضج من خلال الممارسة البرلمانية، إلا تجاربنا فهي حتى تاريخه قاصرة عن ذلك.
من جانب آخر فإن المشاركة في الحكومة عادة ما تأتي من ترشيح الكتل والتيارات والتجمعات القبلية للمشاركة، ومعظم الترشيحات ترجح لأسباب بعيدة عن الموضوعية. فهي إما أن تكون ترشيح لأسباب شخصية، كون الرجل (أو المرأة) (خوش ريال)، مشهود له بالأمانة والطيبة، أو لأن هذا الشخص أو ذاك من القبيلة أو الطائفة. إلا انها في الوقت نفسه لا تلزم سياسيا من يقوم بالترشيح لتعضيد الفريق الحكومي بالكامل؛ أي فريق الوزارة. ما يحدث هو أن الترشيحات التي أُخذ بكثير منها في الحكومات الثلاث السابقة على الأقل، هي ترشيح على طريقة (اذهب أنت وربك فقاتلا)! وهو عمل بعيد عن طريق التقدم السياسي الناضج. أمّا الترشيحات القبلية فهي الأسوأ إذ إنّ التأييد للشخص وليس للمؤسسة قائم بين، أما إذا طلب الشخص من هذا التكتل القبلي أو ذاك أن يؤيدوا زميلا له لسبب أو لآخر، اعتذروا على أساس أننا معك لا مع غيرك! وهو دليل على الفقر في الفهم السياسي. حتى تجربة الحركة الدستورية الإسلامية (حدس) التي يرى البعض أنها أكثر نضجا سياسيا، قد فشلت أمام الجمهور العام في تبني ذلك المبدأ الذي يأخذنا إلى مكان ما أفضل في المسيرة السياسية الكويتية، فكانت تجربة إسماعيل الشطي بالغة المعنى في تدني العمل السياسي في الكويت، إذ دخل الوزارة والكل يعلم أنه يمثل (حدس) ولكن عندما دق الكوز الجرة، وحمى الصراع العملي الذي يحتاج إلى شجاعة سياسية، تريثت (حدس) من الإعلان الصريح أن الدكتور الشطي يمثلها بل قالت بالنقيض، ولما بدأت المشاورات لتشكيل الوزارة التي أعقبت الاستقالة، تذكر الأخوة في (حدس) مرة أخرى أن الشطي هو من (أهل البيت)!
هذه العملية أكدت مقولة (اذهب أنت وربك فقاتلا) إلا أن الأمر قد تغيّر جزئيا بعد القرار الذي اتخذه شريدة المعوشرجي على الأقل في ساحة المتابعين المستقلين، ليس لأنه سابقة فقط، بل لان شريدة صرّح أكثر من مرة تصريحا له معنى عميق، يدل على أن النسيج الكويتي السياسي، ليس متفرجا سلبيا، بل هو إيجابي، إذ قال المعوشرجي: لقد وجدت أن المهنئين على خروجي من الوزارة، أكثر من المهنئين على دخولها! وهو يعني في أحد القراءات أن الناس قد تعرفوا على الموقف المبدئي والأخلاقي الذي سنه الرجل، قبل أن يساندوا برنامجه ألسياسي. فأنت إن قبلت الدخول في (تحالف وزراي)، ممثلا عن كتلة أو تيار، وفشل هذا التيار في المساندة الأوسع لشركائك في العمل التنفيذي، يعني قد فشلوا في مساندتك، وكان حريا بهم أن لا يزجوك في أتون العمل الشائك في الأصل، فالعمل السياسي لا ينفصل عن الأخلاقي، وإن تم الفصل سقط العمل السياسي إلى الحضيض.
المعنى الآخر لسابقة المعوشرجي من الواجب أن يكون له صدى لدى الحكومة، أو متخذ القرار، وهو الالتفات إلى حقيقة ثبتت بعد تجارب، أن ترشيح القوى السياسية أو الكتل السياسية لدخول (فلان أو علان) في الوزارة،لا تعني استعداد الكتل الكامل لمؤازرة تلك الوزارة ككل... هذه الحقيقة تنفي جذريا حكمة الاستعانة بممثلي للكتل (أو التيارات أو القبائل أو الطوائف) في الوزارة، ويمكن هنا أن يتخذ قرار بأن الحكومة هي لكل الكويتيين، وأن على عاتقها عمل أكبر من (الاسترضاء) وهو قيادة الكويت إلى آفاق جديدة. وعليه يجب أن تشكل الحكومات من القادرين على تنفيذ برنامج تنموي، ولا تخضع للمحاصصة.
من دون ذلك سيظل العمل السياسي في الكويت خاضعا لمصالح جد ضيقة. نريد وزيرا في العلن (نظيفا) ونريد وزيرا في السر يمرر لنا المعاملات، صحيحها وخاطئها. تحت هذه المعادلة ستظل الكويت تتراجع في مجالات كثيرة. ربما تلك المعادلة التي أراد شريدة المعوشرجي، بقوة معنوية وأخلاقية، أن يقرع لأخطائها الجرس، فهل وصلت الرسالة؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1768 - الإثنين 09 يوليو 2007م الموافق 23 جمادى الآخرة 1428هـ