نحن بحاجة ماسة لتسليط الضوء على الدوافع والأسباب التي تدفع المتدينين إلى خوض معاركهم الداخلية بعنف وحماس منقطع النظير، مدمرين بذلك قدراتهم الداخلية، التي تعد ملكا للأمّة، ومنفّرين للناس من حولهم، حيث تعتزل أكثرية المجتمع هذا الصراع الذي تراه باطلا، ولا تستسيغ أن تصبح أداة من أدواته أو عدّة من عدد الشغل والتشاغل به، لعدم وجود التفسير الكامل والمبرر الكافي لمعاركه المحتدمة والمتدحرجة والمتلونة.
تختزن الذاكرة الاجتماعية أحداثا وصراعات مريرة أثخنت المجتمع بجراحات نزفت ونزفت فأعيته أحيانا، ومزقت لحمته وعلاقاته الاجتماعية في أحيان أخرى، وقد امتدّ بعضها إلى العلاقة الرحمية حين اقتحمت الصراعات جموع الأقارب والأرحام الذين يتبنون مواقف غير متفقة وغير منسجمة مع بعضها، فقتلت فيهم روح المحبة، وساهمت في تأكيد ثقافة القطيعة ومن ثم الهزيمة والضعف والتخلف على صعيد المجتمع كله.
لم يصدر كل ذلك من جهّال وبسطاء وعوام، بل حدث كل ذلك فيما كانت تقف وراءه مقامات وموقعيات ومراكز قوى وقداسات، ساد في المجتمع حبها وتصديقها واحترامها، بعضها حمل أمانة مجتمعه بصدق وقوة فأعطى ثمارا طيبة ومباركة، وبعضها شغل الناس بما يفرقهم ويمزقهم ويعكر صفو العيش بينهم، فكانت الكلمات والمواقف اللامسئولة تشعل الحروب والنزاعات في ربوع المجتمع المؤمن.
ومن البديهي أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء هذه الصراعات؟ ما الذي يحرّكها؟ وما هو العامل الذي يشعل نارها ويزيد أوارها؟
إن الآيات القرآنية «وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما»( الحجرات:9) تعرضت لموضوع القتال بين الطائفتين المؤمنتين، لكنها لم تتعرض للسبب، ولم أر من المفسّرين مَنْ يتحدّث عن سبب معين وراء حالة الاقتتال والصراع، فالجميع منهم (المفسرين) يسير على نمط آي القرآن ويتناول الحلول والعلاجات التي تناولها القرآن الكريم مع أن للصراعات أسبابها ودوافعها ومقدماتها التي تشكل الصورة والخلفية التامّة لحدوثها. ربما تكون الحكمة وراء عدم الحديث القرآني عن سبب الصراع راجعة لأمور:
الأمر الأول: إبقاء الفرد المؤمن والمجتمع المؤمن في حالة يقظة ودائمة تجاه كل الأسباب والاحتمالات التي تؤدي للتصارع والتقاتل، فليس هنالك سبب معيّن يؤدي بعينه إلى الصراع كي يشار إليه بالبنان إنما هي سعة النفس وهواها، وقوة الشيطان في التلون والخداع، وتعدد مصالح الحياة، وتبين الناس في فهم الحقائق والأشياء، إنه صراع له ألف مبرر وألف سلاح، وله من الألبسة والأشكال ما يتعب الإنسان من متابعتها وإحصائها، فجاء تنبيه القرآن الكريم إلى الاقتتال كنتيجة ينبغي ألا تحصل أو أن تعالج إذا وقعت مهما تكن أسبابها ودواعيها.
الأمر الثاني: إن صراع المتدينين لا يختلف عن صراع غيرهم لا من حيث أسبابه ومسبباته ولا من حيث قوته وعنفه، فليست هناك أسباب معينه تنبت الصراع في المتدينين دون غيرهم، بل هم بشر يشملهم ما يشمل غيرهم من أسباب التصارع والتقاتل.
القرآن الكريم يفترض إمكان حصول التقاتل بين المؤمنين وكفى، ولكن من واجب المجتمع أن يبحث عن أسبابه، التي قد ترجع إلى ملابسات معينة أو ظروف ملتبسة، أو إنها وليدة وساوس وهواجس داخلية، ذاك شأن المجتمع أن يبحث بحسب زمانه وأوضاعه؛ ليكتشف السبب ويبادر في علاجه، يقول السيد جعفر مرتضى العاملي في صدد الحديث عن هذه الآية السابقة من سورة الحجرات، في كتابه (الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل): «والذي كان أوّلا هو الاقتتال بين الأفراد المسلمين، اقتتال لم يعلم وجهه، ولعلّه بسبب فئة لا يعرف وجه الحق فيها، أو سوء تفاهم ناشئ من عدم العقل والتثبت، يستتبع تعصبات قبلية وجاهلية عامة».
ولذلك اتجّه القرآن إلى الحل وإلى الصلح وإلى تحريك المجتمع للمعالجة من دون مبالاة بالأسباب أو تقديس لها، فهي لا تخص المتدينين، وما دام القرآن الكريم قد تحدّث عن ظاهرة ممكنة الوقوع من دون الحديث عن أسبابها، فقد ترك لنا باب تفسير الصراعات والبحث عن عوامل نشوئها مفتوحا لنتأمله بحسب ظروفنا وأوضاعنا، وتحليلنا للأمور.
الأمر الثالث: هو الرفض القرآني لأي صراع يحدث في المجتمعات المتدينة بين المؤمنين، والمطالبة بإيقافه، ومعالجته مهما تكن الأسباب والدوافع، وعلى أي نحو رُسمت صورة ذلك الصراع وغلّفت... وللمقال تتمة.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1767 - الأحد 08 يوليو 2007م الموافق 22 جمادى الآخرة 1428هـ