قبل نحو سنة بدأت حكومة تل أبيب سياسة التدمير المنهجي لقطاع غزة بذريعة خطف جندي إسرائيلي برتبة كابورال. وفي 12 يوليو/ تموز نفذ حزب الله عملية دفاعية نوعية داخل الحدود الدولية فتذرعت حكومة إيهود أولمرت بالهجوم لتشن حملة تقطيع أوصال للبنى التحتية وقرى الجنوب والجسور والمؤسسات والمدارس والمطارات لمدة 33 يوما.
تحت وقع الضربات الجوية والبرية والبحرية التي باشرتها تل أبيب مستفيدة من الدعم الدولي دخل لبنان (دولة ومقاومة) مرحلة سياسية حساسة شكلت نقطة انعطاف في تاريخه. وحتى الآن لا يزال هذا البلد الصغير يعاني من ارتدادات ذاك الزلزال على مستويات مختلفة.
آنذاك كتب الكثير عن العدوان وجرت قراءات مختلفة لمجرى الحرب وغاياتها القريبة والبعيدة. وتابعت «الوسط» الوقائع الميدانية يوميا وعلقت عليها في مقالات حاولت قدر الإمكان التقاط تلك الإشارات التي أرادت واشنطن توجيهها للعاصمة بيروت، ومختلف دول المنطقة العربية والإسلامية من تحت الأنقاض.
تعليقات كاتب هذه السطور صدرت في جو دولي وعربي ولبناني مضطرب ساده الغموض وعدم وضوح الرؤية للأسباب والنتائج المترتبة عن هذا العدوان.
الكتابة اليومية مشكلة وخصوصا حين تسجل الانطباعات تحت وقع ضربات الحرب وسياسة التحطيم المنهجي والمبرمج. وحين تكون الكتابة مهمة يومية يصبح على الكاتب واجب توضيح الصورة من كل زواياها ومن دون انفعال بالحدث حتى لا تنزلق الكلمات إلى مكان تنعدم فيه العقلانية والواقعية.
مضت الآن سنة على تلك المقالات. وفي مناسبة الذكرى الأولى للعدوان سيتم نشر 5 في المئة فقط من تلك الأوراق لتقديم فكرة موجزة عن انطباعات تلك اللحظات المؤلمة والقاسية. ونسبة 5 في المئة تشكل عينة بسيطة ولكنها كافية لتسجيل وقائع بدأت في قطاع غزة وانتهت في تلك الجلسة التي عقدها الكنيست الإسرائيلي لمحاسبة حكومة أولمرت على ما أسمته إخفاقات الحرب.
حسابات الربح والخسارة (24/7/2006)
لليوم الثالث عشر على التوالي استمرت حرب الدمار الشامل على لبنان تحت سقف القرار 1559 التي تقودها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة.
وتحت هذا السقف أخذت التجاذبات الدولية والإقليمية تزعزع أركان الكيان السياسي (الجمهورية). وفي حال استمرت سياسة التقويض للدولة والمقاومة على السواء فهناك احتمالات ترجح خلخلة النظام العام وتفكيك البنية السكانية وشرذمتها على مناطق ودوائر يقودها أمراء طوائف وأحياء يديرون شئونها في إطار ضيق.
إنها إذا معركة المستقبل. والمستقبل كما هو واضح من اختلاف المنطقين (الدولة والمقاومة) يبدو أنه من الصعب أن يلتقي على خط واحد في حسابات الربح والخسارة. فالدولة في حال أوقفت أميركا العدوان ستعلن كما هو مرجح وفي حال بقيت واقفة على الأرض... النكبة. والمقاومة في حال أوقف إطلاق النار ستعلن كما هو مرجح... الانتصار. وبين منطق النكبة ومنطق الانتصار يرجح أن تعلن مجادلة «رياضية» داخلية لمعرفة الصحيح في الأرقام وكيف تستخرج المعادلة الدقيقة من حسابات الربح والخسارة.
لبنان والاحتمالات الأربعة (25/7/2006)
دخلت الحرب الأميركية الصهيونية على لبنان يومها الرابع عشر وحتى الآن تبدو الأمور تراوح مكانها.
هذه الصورة غير دقيقة، ولكنها تعكس أجزاء الواقع العسكري المشوش على الأرض. وقبل أن تكتمل صورة الواقع الميداني يمكن رسم احتمالات متخيلة للنهايات المتوقعة.
الاحتمال الأول: إعادة إنتاج اتفاق 1976 الذي أعطى الجنوب اللبناني منطقة نفوذ لـ «إسرائيل» مقابل تكليف دمشق بمهمة ضبط السلاح الفلسطيني ومنع القوات المشتركة (اليسارية) من التمدد في المناطق. هذا الاحتمال يمكن توقعه مع تعديلات كثيرة تتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية التي حصلت في العقود الثلاثة.
الاحتمال الثاني: ترك «إسرائيل» تمارس سياسة تقويض الدولة وبعثرة الكيان اللبناني أجزاء مناطقية (طائفية مذهبية) تدير شئونها حكومة مركزية تعطى صلاحيات الوزارات السيادية وتترك للمناطق صلاحيات لإدارة مختلف الشئون المحلية التي يحتاجها الناس في حياتهم ومعاشهم في إطار عام يلبي حاجات الولايات المتحدة ومشروعها التقويضي الذي يقوم على فلسفة «الفوضى البناءة».
الاحتمال الثالث: توزيع لبنان إلى ثنائية سياسية تعتمد على محورين: منطقة للمقاومة (البقاع والجنوب) بإشراف دولي إقليمي، ومنطقة للدولة (الجبل والساحل) تعطى فيه فرصة للدولة لإعادة ترميم مشروعها بضمانة دولية وإقليمية (مصرية سعودية) في سياق مستقل عن تداعيات المواجهة المحتملة إقليميا. فالمواجهة قد تكون مستبعدة في حال توافقت القوى الدولية على حل سياسي شامل بما فيه الملف النووي الإيراني. ولكنها أيضا غير مستبعدة في حال فشلت الأطراف المعنية في التوصل إلى صيغة حل شامل.
الاحتمال الرابع: إعادة لبنان ساحة مفتوحة لتوجيه الرسائل بين القوى الدولية والاقليمية. وهذا يعني ترك هذا البلد الصغير يتخبط في دائرة مواجهة ممتدة من غزة إلى طهران.
وهذه الحال المدمرة عاشها لبنان منذ العام 1975 إلى العام 2000. ونجح في الخروج منها حين توافقت الأطراف على «اتفاق الطائف» وأعادت ترتيب أوراقها بالتفاهم على توزيع الوظائف بين مهمات الدولة وواجبات المقاومة. وانتهى الموضوع بأن الدولة انجزت تقريبا مشروعها والمقاومة أنجزت تقريبا أهدافها وجاء العدوان الحالي ليقوض تلك المعادلة (الدولة والمقاومة) من خلال فتح الجبهات على احتمالات غير واضحة المعالم.
نحن الآن في اليوم الرابع عشر من حرب تقودها «إسرائيل» نيابة عن أميركا. وفي هذا اليوم وصلت رايس إلى بيروت لبحث مشروع حل دبلوماسي سياسي ترسمه المعادلات الميدانية على الأرض.
ماذا بعد غضب رايس؟ ( 26/7/2006)
خرجت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس غاضبة من تلك الزيارة الخاطفة التي قامت بها أمس الأول إلى بيروت المحطمة.
فهذه الوزيرة حملت معها مشروع استسلام للدولة اللبنانية ظنا منها أن حرب التدمير الشاملة التي شنتها «إسرائيل» كافية لتوجيه رسالة قوية بهذا الشأن. فالزيارة إذا كانت بهدف جس نبض الدولة وفحص مدى استعدادها للتجاوب مع الشروط الإسرائيلية واكتشفت بعد ساعتين أن «طبخة» الحل لم تنضج بعد... ولبنان بحاجة إلى مزيد من الضربات. وهذا ما أشارت إلى احتمال حصوله بعد زيارتها تل أبيب واجتماعها مع حكومة إيهود أولمرت.
مضى 15 يوما على الحرب الأميركية الصهيونية على لبنان، وحتى الآن لايزال يقاتل حزب الله وحده في جبهة الجنوب. فالحزب بإمكاناته المتواضعة يواجه رابع قوة عسكرية في العالم. وهذه القوة سبق أن هزمت أكبر ثلاثة جيوش عربية في حرب يونيو/ حزيران1967.
ولكن المرجح الآن بعد فشل زيارة رايس إلى بيروت ورفض الدولة اللبنانية (المقوضة والمشلولة) التجاوب مع اقتراحاتها أن تبحث عن «بديل» إقليمي يوافق على تطبيق تلك «الأجندة». وهذا «البديل» يتوقع أن تتصل به واشنطن قريبا. ولكن الاتصال القريب لن يتم سريعا... أي قبل انتهاء تلك المهلة الإضافية التي أعطتها رايس لحكومة أولمرت. والمهلة يرجح أن تكون قوية وقاسية على لبنان.
لعبة أميركية وخيمة (27/7/2006)
فشل «مؤتمر روما» الذي أنهى أعماله أمس في إيطاليا بحضور الولايات المتحدة ولبنان في التوصل إلى تحقيق وقف فوري ومباشر لإطلاق النار.
واتهم وزير الخارجية الإيطالي أميركا بأنها أحبطت كل المحاولات التي جرت لتحقيق هذه الرغبة اللبنانية. وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لم تتهرب من التهمة مؤكدة أنها ترغب في وقف النار بعد التوصل إلى حل سياسي عام في منطقة «الشرق الأوسط الجديد» أو على الأقل التوافق على حل جذري لكل المشكلات المحلية والإقليمية في لبنان.
مضى حتى اليوم 16 يوما على حرب التقويض ضد الدولة والمقاومة. والاحتمالات لاتزال مفتوحة على مراحل جديدة قد تحمل معها تداعيات خطيرة إنسانيا وإقليميا وعربيا وأميركيا ودوليا.
منطق الدولة ومنطق المقاومة (28/7/2006)
كشف «مؤتمر روما» عن أوراق مستورة في الحرب الأميركية الصهيونية على لبنان: دولة ومقاومة.
وجدد فشل المؤتمر، في التوصل إلى اتفاق سريع ومباشر لوقف إطلاق النار، نمو التعارض بين منطق الدولة ومنطق المقاومة.
مشروع الدولة التي تقوضت أركانها السياسية وتحطمت مرتكزاتها الاقتصادية أصبح في حال يرثى لها. فالدولة تملك الصلاحيات ولا تملك سلطة القرار. والمقاومة التي نجحت في التصدي للاختراقات الإسرائيلية في «القشرة» الحدودية جددت مطالبها السابقة بـ (وقف النار وتبادل الأسرى) ورفضت القبول بتلك الأفكار التي طرحها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في روما. والمقاومة في هذا المعنى أقوى من الدولة فهي لا تملك الصلاحيات ولكنها تملك سلطة القرار.
الآن انشطر لبنان إلى منطقين ومن الصعب جمعهما على رغم محاولات رئيس مجلس النواب نبيه بري التوسط بينهما. لبنان بعد 12 يوليو/تموز دخل منطقة «الفوضى البناءة» وتصريح أيمن الظواهري (القاعدة) إشارة سريعة إلى تلك الأوراق المستورة التي بدأت في الانكشاف.
لبنان بعد 12 يوليو (29/7/2006)
مضى 18 يوما على حرب الدمار الشامل التي قادتها «إسرائيل» على لبنان دولة ومقاومة.
وحتى الآن تبدو الحرب مفتوحة ومكشوفة دوليا وإقليميا وعربيا ومحليا. وبسبب انكشاف السماء اللبنانية من الصعب تحديد النهايات الكلية للحرب المحروقة.
حتى الآن لا توجد مؤشرات دامغة تؤكد انفتاح الحرب إقليميا. إلا أن التكهنات في هذا الشأن غير مستبعدة إذا فشلت الاتصالات «السرية» والعلنية التي بدأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان يقوم بها على خطين: دمشق وطهران.
من الآن حتى تتوضح صورة الموقف الدولي الميداني فإن لبنان (دولة ومقاومة) سيبقى مساحة مفتوحة للحرب المحروقة التي تشنها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة.
هناك لبنان آخر يتشكل الآن من تحت الانقاض. وهذا الشكل الجديد لم تتبلور صورته بسبب تكسر الأجزاء وتبعثرها طائفيا ومناطقيا. إلا أن احتمال تبلور الصورة ستتضح معالمها بعد وقف تلك الآلة الجهنمية، التي تقودها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة، قصفها على الناس والعباد والبشر والحجر.
مضى 18 يوما على حرب الدمار الشامل وحتى الآن لاتزال الحرب مفتوحة ومكشوفة ومحروقة وبغض النظر عن نتائجها الميدانية والإقليمية والدولية فإن لبنان بعد 12 يوليو تغير... ولم يعد جميلا كما كان.
تدويل الجنوب... وما بعده (30/7/2006)
مضى 19 يوما على الحرب الأميركية الإسرائيلية على لبنان (دولة ومقاومة) وحتى الآن لم تتوضح معالم الحل السياسي بسبب ذاك «التوازن السلبي» الذي ظهر في ميادين القتال.
فالتوازن السلبي العسكري الذي نجح حزب الله في رسم خطوطه يعني استراتيجيا أن «إسرائيل « عاجزة عن سحقه أو إخراجه من المعادلة كذلك يعني أن الحزب غير قادر على إنزال هزيمة كبيرة بالدولة العبرية.
لبنان الآن (دولة ومقاومة) أمام استحقاقات خطيرة للغاية والنجاح في المعركة الدبلوماسية قد يوفر فرصة للدولة بالنهوض مجددا (دولة محروقة ومشوهة) بينما الفشل يعني فتح باب أمام رياح «التدويل» أو «التمزيق» أو العودة إلى الصيغة الثنائية التي تأسست موضوعيا في العام 1976 على الساحة اللبنانية.
مشكلة لبنان تتلخص في هذه اللحظات الصعبة بالموقف الأميركي. فالولايات المتحدة استغلت قانونيا «الشرعية الدولية» لتضرب ضربتها السياسية الموجعة. فهي تستخدم مسألة «من بدأ الحرب» لتمرير مشروع تقويضي كبير (مخاض الشرق الأوسط الجديد كما وصفته كوندوليزا رايس) ولو أدى الأمر إلى تمزيق لبنان إلى أشلاء طائفية ومناطقية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1767 - الأحد 08 يوليو 2007م الموافق 22 جمادى الآخرة 1428هـ