العدد 1767 - الأحد 08 يوليو 2007م الموافق 22 جمادى الآخرة 1428هـ

يهود البحرين... جزء أصيل من الذاكرة الوطنية

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

لن أبالغ أبدا إذا ما قلت إن الكتاب «من بداياتنا وحتى وقتنا الحاضر» الذي قامت بتأليفه نانسي إيلي خضوري عن تاريخ الوجود اليهودي في البحرين، والذي يعد بلاشك الأوّل من نوعه في ما احتواه من معلومات موثقة وصور فوتغرافية للعائلات اليهودية وبيوتها ومناطق سكنها وأبرز أعلامها في البحرين، قد أتى في ما يشبه التكريم والاحتفاء المستحق لتسامح وألفة المجتمع البحريني التاريخية وتعدديته وانفتاحه الفارق والمشهود له من قبل الجميع، والذي نالت منه العائلات والنخب اليهودية في البحرين قسطا وافرا بحسب ما ذكرته المؤلفة التي لم تتوان في التنويه باعتزازه وافتخارها بجذورها العربية وبانتمائها إلى البحرين.

وأنت ما أن تقلب أوراق هذا السِفْر وتستمتع بقراءتها لما تتمتع به من سلاسة ملموسة في الأسلوب وتدرج ميسر في البنية السردية للنص، فإنك تكون على موعد مع قراءة عدد من القصص والذكريات الجميلة التي تعبّر عن نموذج لتعايش سلمي بين مختلف أبناء وطوائف هذا الشعب لا يمكن أن يتعكر بحوادث انفلات عابرة، وأذكر من الكتاب الذي قمت بالاطلاع عليه قصة عميد أسرة صويري اليهودية في البحرين والمتحدرة من بغداد، ألا وهو إسحاق صويري وذلك حينما كان في ضيافة مواطن بحريني يدعى راشد الملا، وقد تردد إسحاق صويري في تناول فنجان القهوة من «المقهوي» الذي يودّ أن يقدّمه له لما أبداه من اعتقاد بأن شربه من هذا الفنجان باعتباره يهوديا قد يثير حساسية أصحاب البيت لكونه قد أصبح فنجانا غير طاهر ونظيف، إلا أن المضيف أصرّ على تقديم القهوة للضيف وقام بعدها بشرب القهوة أمام جميع الحاضرين من الفنجان ذاته الذي شرب منه ضيفه اليهودي، فيقوم عبر ذلك السلوك بتوصيل رسالة مؤداها التأكيد على الإخوة الإنسانية وعدم وجود الفروق بين الحاضرين!

كما أنك ستلاحظ من خلال ما احتواه الكتاب من معلومات تاريخية أن الغالبية العظمى من أبناء العائلات اليهودية البحرينية قد امتهنت مختلف أنواع التجارة والعمل المصرفي، في حين وجد هنالك من اشتغل بحقل التدريس كمدرس الرياضيات الأستاذ سلمان زلوف، ومن عمل بشكل مباشر في خدمة المجتمع البحريني كمريم جان»أم جان» وهي يهودية من أصل عراقي متزوجة من رجل ذي أصول هندية عرف عنها مساعدتها للنساء أثناء ولادتهنّ، و مسعودة شاؤول التي سكنت منطقة الحورة، والتي عرف عنها إتقانها لخياطة وتطريز الثوب التقليدي للنساء البحرينيات وهو ثوب «النشل»، كما أن هنالك قصصا بشأن زواج مختلط بين اليهود والمسلمين في البحرين، وبالإضافة إلى توثيق لمشاركة ممثلين عن العائلات اليهودية في المجلس البلدي للمنامة آنذاك، وعمل أبناء العائلات اليهودية في المصارف والشركات الوطنية مثل: شركة «بابكو».

الكتاب يقدّم أيضا قصصا طريفة ومنها قصة الحانوتي اليهودي عزرا صالح البقال الذي هاجر من العراق إلى البحرين وعاش واستقر في مكان خلف قلعة البحرين، إذ إنه وفي الوقت الذي كان يمتنع فيه اليهود عن الطهي في يوم السبت كان عزرا على رغم ذلك يقوم بالطهي في هذا اليوم، ونتيجة لذلك فهو يتعرّض لمضايقة من أطفال المنطقة التي يعيش فيها، وذلك حينما يختبئون خلف الحائط ويصّوتون «هذا هو اليهودي الذي يقوم بالطبخ في يوم السبت! إنه ليس باليهودي الجيد!».

في حين هنالك قصص تراجيدية عدّة مرت بها العائلات اليهودية وعانت جرّاءها، نذكر من بينها قصة فقدان رجل الأعمال البحريني اليهودي جوزف خضوري لابنتيه نانسي وراشيل اللتين لقيتا مصرعهما، ورحلتا وهما مازالتا في طور المراهقة، وذلك أثناء حادث تحطم طائرة، لذا يأتي النسيج الحكائي للكتاب وقد تداخلت فيه خيوط التراجيديا بالكوميديا بتداخل هندسي محفز ومثير لأشواق عائلات يهودية كانت لها ذكريات جميلة ووطنية في البحرين، وقد تفرقت بها السبل الآن في مختلف دول العالم كبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، هذا إن لم يكن هناك نغم ولحن تراجيدي طاغٍ تخاله أشبه ما يكون بلحن «الكمان» يعزف على وتيرة التعاقب السردي المتكرر لحوادث هجرة العائلات اليهودية من البحرين إلى الخارج البعيد في لندن ونيويورك فيما يستثير الذكريات.

وقد تطرّقت المؤلفة إلى خيبة أمل المهاجرين اليهود من البحرين إلى «إسرائيل»، وتناولت حوادث العنف والشغب الجماهيري الغاضب التي لحقت بالعائلات اليهودية في العام 1948م وقد استشهدت خلالها برواية مستشار الوصاية البريطانية تشارلز بلغريف عن هذه الحوادث المؤلمة التي تعرّضت لها العائلات اليهودية في البحرين مع إعلان إنشاء الكيان الصهيوني، والتي سرعان ما تمكنت السلطات وبعون اجتماعي وشعبي بحريني مسالم من إيقافها وصدها وإعادة التعايش الوطني السلمي والمنفتح إلى مجاريه الأصلية، كما تتطرق روايته إلى رجوع أحد اليهود من الكيان الصهيوني إلى البحرين وهو ما يعني مخالفة قانونية عرضته للسجن لمدة عام واحد إلا أن هذا العائد أبدى فرحته بهذا الحكم الذي اعتبره خفيفا وسيمكنه بعد تجاوز مدة العقوبة من العيش في البحرين مجددا بعد أن غادر «إسرائيل» وهي المرة الأولى من نوعها!

ما نودّ أن ننبه إليه في سياق تناولنا لكتاب نانسي خضوري هو التأكيد على ما ينطوي عليه هذا الكتاب من أهمية في كونه يعري البروباغاندا الصهيونية الكلاسيكية من صدقية دأبها المتواصل على تصوير اضطهاد اليهود في المجتمعات العربية والمسلمة ودول العالم وهو ما قد يستخدم كعامل ضغط وتبرير لإقامة الكيان الصهيوني، وذلك من خلال ما يقدمه هذا الكتاب من نماذج وشهادات تاريخية موثقة من قبل أصحابها عن أجواء التسامح الديني والثقافي في المجتمع البحريني التي تنعمت بها العائلات اليهودية، ولا ضير من القول أبدا إن هذا أمر يستعصي فهمه على مَنْ اعتاد الخلط بين الديانة اليهودية والأيديولوجيا الصهيونية الامبريالية بسطحية بالغة تتجاوز الاعتراضات والالتباسات المتجذرة والحاصلة بين الضفتين!

لذلك لا ننكر أن ما حاق بالعائلات اليهودية البحرينية من ظلم وحيف وأذى في حوادث الشغب الجماهيري العارم في أربعينات وستينات القرن الماضي ربما يكون قد ساهم عن غير قصد في خدمة الدعاية الصهيونية التاريخية وجعل خيار الهجرة إلى الخارج وخصوصا إلى الكيان الصهيوني أمرا ضروريا وخيارا عقلانيا محبذا، فهذا الكيان كان ولايزال معتمدا بشكل وريدي على تلك الهجرة الاستيطانية على رغم أن تلك الحوادث العابرة لم تكن أبدا في حجم ما تعرض له اليهود في العراق من مضايقات واعتداءات بالغة استخدمت فيها القنابل والأحماض الكيميائية، وقد طالت بيوتهم ومحلاتهم التجارية وأنديتهم كنادي «لورا خضوري»، وقد افتضح لاحقا أمر تلك الاعتداءات في كونها مدبرة صهيونيا، وذلك بفضيحة الجاسوس الصهيوني «بن بورات» المكنى نبذا بلقب «مراد أبوالقنابل» من قبل اليهود ذوي الأصول العراقية في الكيان الصهيوني، بل وشملت تلك الاعتداءات التي تركزت بصورة واضحة على مدينة البصرة العراقية تواطئا داخليا فجا أدى إلى التضييق على اليهود العراقيين ونزع مواطنتهم العراقيةّ عبر قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود!

فتظل الجهود المشكورة والتي بذلت في تأليف هذا الكتاب وأمثاله في المكتبات العربية والعالمية جهودا ذات أهمية لا يمكن التقليل من شأنها فيما قد تقدّمه من تكذيب عفوي وتلقائي لتخرصات وافتراءات تلك الدعايات الصهيونية والغربية المغرضة، والتي نذكر من بينها كتاب المؤرخ العراقي اليهودي الراحل مير بصري وهو «أعلام اليهود في العراق الحديث» الذي نعد القراء الأعزاء بتقديم عرض له في مقال لاحق بإذن الله تعالى.

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1767 - الأحد 08 يوليو 2007م الموافق 22 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً