بعض الكتّاب ما زال يذكرها لغرض في نفس يعقوب، ولكن ننقلها مقتضبة لجهة علاقتها بنقطة الخلاف أو الجحر الذي لُدغت منه الأمّة مرات، وهو الخلاف الكلامي بشأن القرآن ما إذا كان مخلوقا أم أزليا. وحين تلتقي الأهواء السياسية مع الشأن الديني، وينال الأوّل غطاء شرعيا لممارساته الإجرامية في حق الطرف الآخر المخالف، يمكن إدراك كيف تكون قضية خلق أو أزلية القرآن سببا لما اختطه بعض الخلفاء الأمويين من سياسة بطش وإرهاب فكري بمباركة ورضا بعض ممن يرون بأزلية القرآن، ضد مَنْ يرون أنه مخلوق، وبلغ الاستهتار بالبشر مبلغا مريعا من قبل بعض ولاة الحكم الأموي.
يذكر الإمام أبوزهرة حادثة مفجعة كنموذج لسياسة البطش هذه وذلك في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية»، وهي بكل أسف وصمة عار في جبين هذا التاريخ. وملخصها أن الجعد بن درهم قال: إن القرآن مخلوق وليس قديما، ومن أجل دوافع سياسية فيها استرضاء واستمالة لأطراف دينية، قام خالد بن عبدالله القسري، والي الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على خراسان، باعتقال الجعد بن درهم. وفي يوم عيد الأضحى، تم تقييد الرجل، ثم ارتقى خالد المنبر وألقى خطبة العيد، وفي ختام الخطبة، قال: أيّها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم...» ثم نزل من فوق المنبر شاهرا سيفه متجها نحو أسيره الموجود أسفل المنبر، وأمام الناس، وضع السيف برقبة الرجل، وجزّها كما يفعل الناس بأضحياتهم من الغنم والبقر، وكان ذلك في القرن الثاني الهجري (سنة 742م).
ومن الجحر نفسه لدغت الأمة، وهذه المرة حدثت بعد الأمويين حين استلم بنو العباس الحكم، ففي زمن المأمون العباسي، اعتنق في بدايات القرن الثالث الهجري مذهب المعتزلة الذين يشهد لهم التاريخ بانفتاحهم على الحوار وما قدّموه من دفاع عن الإسلام. ومرة أخرى وحول القضية نفسها - القرآن مخلوق أم أزلي - إذ لم يستحمل بعض علماء المعتزلة الخلاف الكلامي بشأن هذه المسألة، فحرّضوا المأمون على التنكيل بأئمة الفقه والحديث الموجودين في بغداد ممن يقولون بقدم القرآن وأزليته، فانذرهم واليها إن لم يقروا بخلاف معتقدهم، ولمّا أصرّ بعضهم على رأيه، وهم قليل، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، شدّوا في الوثاق وكبلوا بالحديد وباتوا ليلتهم مصفدين في الأغلال كما في تعبير الإمام محمد بن أبي زهرة. وخارت قواهم فتراجعوا ما عدا اثنين، أحدهما الإمام أحمد والثاني محمد بن نوح، فسيقا في القيود الحديدية إلى المأمون بطرطوس، ونتيجة للإرهاق الشديد وما صاحب المسير من أذى، توفي ابن نوح في الطريق.
ولدغة أخرى ولن تكون أخيرة جاءت بعد أن توفي المأمون، فخلفه المعتصم حتى وصلت الخلافة في العام 847م / 232هـ إلى المتوكل على الله... فحوّل القضية نفسها، تمرّد المتوكل على المعتزلة، فقرّب أئمة الفقه الحديث، فأغراه بعضهم ضد المعتزلة حتى أخرجهم من مناصب الدولة وعزلهم عن سلك التعليم ومنعهم من الجهر بالآراء المخالفة لما يعتقده حتى في الأدب والفلسفة، وفرض على الكل القول إن القرآن أزلي غير مخلوق، واستعدى كل الطوائف والمذاهب التي تخالف رؤاه، فاضطهد الشيعة وهدم مشهد الحسين (ع) في كربلاء سنة 237هـ / 851م. ومارس بمباركة بعض الحاشية التمييز ضد المواطنين الآخرين من أهل الديانات السماوية، يقول ول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة): «ففرض على اليهود والمسيحيين أن يلبسوا ثيابا من لون خاص تميّزهم من غيرهم من أفراد الشعب وأن يضعوا رقعا ملونة على أكمام أثواب عبيدهم وألا يركبوا غير البغال والحمير وأن يثبتوا صورا خشبية للشيطان على أبواب بيوتهم وأمر بهدم جميع الكنائس والمعابد المسيحية واليهودية الجديدة وحرم رفع الصليب علنا في المواكب المسيحية ولم يسمح لمسيحي أو يهودي أن يتلقى العلم في المدارس الإسلامية».
كانت تلك الأحداث في زمن لا قيمة للبشر عند الحاكم ولا معنى آنذاك لكلمتي «حقوق الإنسان»، وأرواح الناس لا تزيد قيمة عن أرواح القطط والكلاب إن لم تكن بمثابة الحشرات الضارة... مع ذلك عجزت الأجهزة الحاكمة عن استئصال شأفة الديانات والمذاهب ومن يؤمنون بها، فبقوا وبقي فكرهم إلى يومنا هذا... والسؤال ونحن في هذا العصر: ألا تكفي دروس التاريخ وتلك الأحداث بعض المتخشبة عقولهم لدينا حتى يتعظوا ويهجروا فكرة الإقصاء والتكفير التي مارسوها طويلا في حق الأطراف الأخرى، ثم عمد بعضهم لأقرب الأطراف إليهم فكرا لتكفيره وإخراجه من الملّة، ومتى يدرك هؤلاء جميعهم إننا جميعا مسلمون وغير مسلمين شركاء في هذا الوطن، وإن القبول بالتمييز على أسس مذهبية وطائفية ودفاعهم عن هذه السياسة هو من أجل زخارف الدنيا ومناصبها التي لا علاقة لها بقيم الدين - أي دين - وإن ظلم الآخرين لا يجلب سوى لعنة التاريخ وركوب موجة العار والغرق في وحل الشنار؟
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1766 - السبت 07 يوليو 2007م الموافق 21 جمادى الآخرة 1428هـ