لو بوسعنا أن نزيد من عدد عجائب الدنيا السبع، لاعتبرنا أميركا ثامنها، عالم ولد من الفوضى، وحكم العالم من منطلق القوة، فالأميركيون صنف جديد من البشر جذوره أنشأت من أجناس عدة مكونا بذلك ظاهرة يوصفها جون شتانيك في كتابه أميركا للأميركيين - المنشور العام 1966م - «إنها فوضى أثنية ظاهرية»، إنهم مجرد خليط اصطناعي مؤلف من أفراد غرباء عن بعضهم بعضا، تجمعهم رغبة مشتركة في الاستهلاك والربح معا. لكن ما يثير حقا أن هذه الدولة الناشئة من الفوضى قدر لها أن تتغير باستمرار، مندفعة دوما من دون فرامل، وكأن التغيير سبب لبقائها على حد قول رئيسها السابق بيل كلينتون «لكي تدوم أميركا لابد لها أن تتغير» ولكن هل التغير يكون بالكراهية والتحيز أم بالغضب والشراسة؟ أما آن لهذا اللهث العابث من سكون؟
تعتبر الولايات المتحدة الأميركية مثالا حيا ومهما لمشروع لدراسة نشوء وتطور دولة بل إمبراطورية في مقياس زمني قل ما يحدث في التاريخ، بل حدث في ظروف بالإمكان أن نطلق عليها بأنها متطرفة إن جاز لنا التعبير.
ففي العام 1502م، أعلن الرحالة الايطالي أميركيو فسبوتشي أن ما صادفه هو عالم جديد لا يعرفه الناس، لذلك أطلق عليه تحديدا مسمى أميركا تخليدا له. بعدها أصبحت أراضي هذا العالم الجديد الشاسعة ملتقى للحجاج البريتايتون المنفصلون عن الكنيسة الإنجليزية، والذين عبروا أمواج المحيط الهائج ومعهم الكتب المقدسة واللاهوت لبناء إنجلترا جديدة، هذا الشتات القادم من أوروبا بدأ ينمو مكونا وطنا أميركيا خاصا، يمزج بين المجتمع الزراعي في الجنوب إذ المناخ الحار والتربة الخصبة، والمجتمع الصناعي في الشمال إذ انتشرت مطاحن القمح والذرة بالقرب من الموانئ، فسادت حياة الاستقرار ما بين المدرسة والكنيسة، بعد قرنين من الزمن وتحديدا في العام 1776م تعالت الأصوات بالانفصال عن التاج البريطاني، فشكلت لجنة من خمسة زعماء وطنيين لإعلان الانفصال الذي لقي قبولا عاما وكانت مهمتها إعداد وثيقة الاستقلال والتي أعلنت بشكل نهائي في الرابع من يوليو/ تموز من العام 1776م، لتظهر معها ولادة أمة جديدة هي الولايات المتحدة الأميركية.
خلال قرن ونصف من الزمان لم يكن لتلك الدولة صدى خارجيا بل بدأت توحد الشتات وتصهره في نظام جمهوري وحياة قائمة على: البذخ والرفاه، وتعزيز مبدأ المصلحة، وانعدام النظام الطبقي الاجتماعي القائم على النسب والأسرة، والتحرر الفردي من القيود الدينية والأعراف المجتمعية، والسرعة في الإنجاز والتسابق مع الزمن، وظهور المافيا الاقتصادية والسياسية، وانهيار المنظومة الأخلاقية، لذلك ظهرت لنا الأمة الأميركية الجديدة والتي بدأت تسوق حياتها مثالا لشعوب العالم.
بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت لنا هذه الدولة في صورة جديدة، إذ خرجت من القمقم الداخلي إلى عالم خارجي هيئ إليها بعد ضعف أسياد العالم، والاستحواذ على النفوذ البريطاني والفرنسي وكانت الولايات المتحدة على موعد جديد وحياة جديدة، نحت منحى فريدا، أرادت أن تكون سيدة العالم، لذلك قامت بتقسيم أوروبا من الناحية السياسية إلى ثلاث تصنيفات: الخصم، الحليف، الضعيف، ومن الطبيعي أن يكون الاتحاد السوفياتي هو العدو الأول، لذلك خلقت فوبيا الشيوعية، فتزعمت الولايات القطب الرأسمالي ضد القطب الاشتراكي في حرب شرسة عرفت بالحرب الباردة، وسعت الولايات المتحدة بكل ما تملك من قوة إلى ضرب الآخر في المنظومة الاشتراكية بل إقصاءه من الخريطة الدولية وهذا ما فعلته في أوروبا الشرقية وكوبا والصين، إذ سعى وزير خارجيتها السابق جورج مارشال في خطابه الموجه إلى طلاب جامعة هارفرد في يونيو/حزيران 1947م، إلى تقسيم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، ومن باب «على العالم أن يختار» بدأت الولايات بتطبيق اقتراح الرئيس ايزناهور، والمتمثل بتقديم مساعدات ضخمة إلى الحكومات المتعاونة معها في القضاء على الشيوعيين.
تورطت الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة في أكثر من حرب، ولكل حرب هدف ورسالة، لكن ذلك لا يعني أنها تخترق الصواب، أو تسدد ما ترنو إليه، لكن في كل مرة تخرج من ورطتها بسلام، لأنها ببساطة تدخل نفسها في مأزق آخر، وتجيد التحرك في عدة اتجاهات، وبشتى الطرق لأن لديها «في التفاصيل تكمن الشياطين»، حياة ديناميكية متقلبة، فبعد حرب فيتنام، دخلت بحرب أفغانستان من وراء الستار مع الإسلاميين، زجت بالعراق في حرب مع إيران، ومنها صارت العراق أرجوحتها في المنطقة، وبدأت تتنقل بسرعة الفارة من فلسطين إلى سورية فلبنان، في كل بلد تخلق قصة، وتثير الغبار، بعد أن جندت لها حلفاء خلص في المنطقة، تساومهم بسلاح مقاومة الإرهاب تارة، وبالمطالبة بالإصلاح والديمقراطية تارة أخرى. ولم يسلم حلفاؤها من الاوروبين منها فحرب كوسوفو خرقت وهم العلاقات الجيدة واصطفاف المصالح، اذ وضعت روسيا في حرج شديد مع حليفتها صربيا، وأهملت فرنسا، بينما حجمت الدور الألماني، بل إنها وسعت حلف الناتو في المشرق الأوروبي بصورة تثير التوجس والخيفة، كما نجحت بأعجوبة إن تجعل بريطانيا صدى حيا لصوتها. وفوق ذلك كله بدأت تؤثر في السياسة العالمية عبر حق النقض الفيتو في مجلس الأمن.
ما الذي تريده الولايات المتحدة بالضبط؟ ولأية فكرة متطرفة جديدة تسعى؟ وبأي حق تكون القوة والقهر على ضحايا يتم اختيارهم عشوائيا من أجل طموح صقور؟، ألا تعرف أميركا أن كرهها بات خبزا يوميا تلوكه شعوب العالم في اليوم عدة مرات، وتتبارى في حرق علمها وهجاء رؤسائها، والدعاء عليها بالموت والثبور في كل مكان. فمتى يقف هذا اللهث الأميركي المجنون؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1764 - الخميس 05 يوليو 2007م الموافق 19 جمادى الآخرة 1428هـ