الصمت هو العنوان الذي اختارته حكومة إيهود أولمرت في مناسبة مرور سنة على العدوان الإسرائيلي على لبنان وفق التقويم العبري. فالصمت من ذهب بينما الكلام من فضة. ولأن معدن الذهب أغلى قررت حكومة أولمرت السكوت وتجاهل الذكرى. إلا أن المنظمات السياسية والمدنية وعائلات الجنود والقتلى رفضت هذا الخيار ونزلت إلى الشارع وبعض المواقع مطالبة حكومة تل أبيب بكشف الحقيقة وتوضيح صورة ما حصل.
حتى الآن لاتزال حكومة أولمرت حائرة في أمرها وغير قادرة على تقديم جواب مقنع للرأي العام الإسرائيلي. وهذا الضياع بين الربح والخسارة أو الانتصار والهزيمة أربك القراءة الإسرائيلية ووضعها في دائرة ضيقة. المؤسسة العسكرية تقول إنها ربحت الحرب ولكنها أخفقت في تحقيق أهدافها المعلنة لأنها اكتشفت ميدانيا أنها غير قادرة على ذلك. الجمهور الذي رهن مستقبله بجيش الدولة وجد نفسه يمر في حال إحباط لأن القوة «التي لا تقهر» ظهرت في موقع الضعيف وأحيانا العاجز عن حماية الناس.
خيبة الأمل التي مرت بها حكومة أولمرت خلال فترة العدوان الذي استمر نحو 34 يوما شكلت نقطة ضعف استراتيجية في بنية الدولة التي تعتمد على الجيش في ضمان الاستقرار والتوازن النفسي.
فالخيبة أسست بداية قراءة نقدية تفرعت إلى اتجاهين: الأول يرى أن الإخفاق يعود سببه إلى عدم وضوح القرار السياسي الذي انعكس سلبا على الأداء العسكري/ الميداني. والثاني يرى أن الإخفاق أعمق من ذلك وهو يمس جوهر الأمن وموقع الدولة الخاص في حماية الكيان من الخطر الذي يهدد وجوده بالاضمحلال.
بغض النظر عن النهاية التي ستصل إليها حكومة أولمرت توصلت لجنة التحقيق (فينوغراد) إلى استنتاجات تركزت خلاصاتها على نقاط التقصير والفشل والإخفاق، أي أنها تميل إلى تحميل الأخطاء السياسية المسئولية.
النقاش حتى الآن لم يتوقف ويرجح أن يستمر سياسيا وإعلاميا إلى أن يستقيل أولمرت من منصبه ويدعو إلى انتخابات مبكرة في حال نشرت «لجنة فينوغراد» النص الكامل والنهائي لتحقيقاتها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
أمام أولمرت نحو مئة يوم للخروج على صمته وإعلان كلمة واضحة بشأن ما جرى خلال فترة العدوان. فهل نجح أم فشل؟ وهل ما حققه من حرق ودمار وخراب في لبنان كان هو الهدف من الحرب أم أن هناك أجندة أخرى طمح إلى تحقيقها وأخفق في أمرها؟
الأهداف التي أوردها أولمرت في خطاب الحرب الذي ألقاه أمام الكنيست بمناسبة بدء العدوان ونال على أساسه التفويض والثقة والدعم المطلق من مختلف الكتل الحزبية والبرلمانية لم تتحقق في معظمها سوى إلحاق الخراب بالاقتصاد اللبناني وتحطيم البنى التحتية للدولة وتكسير الأبنية السكانية للمقاومة. وغير ذلك لم تنجح حكومة أولمرت في تحقيق خطوة تذكر على صعد أخرى. فالمقاومة لاتزال موجودة والدولة رفضت التجاوب مع دعوات أولمرت لها بالحوار وفتح باب التفاوض والاعتراف المتبادل. وهذا يعني أنه على المستوى السياسي حصل ما يشبه «التوازن السلبي» إذ لم تنجح حرب التحطيم والدمار في إنتاج خطوة نوعية واحدة إلى الأمام. ولكنها استطاعت بسبب الدعم الأميركي المطلق والسكوت الدولي وضعف الحماية العربية وغير العربية للبنان أن تتوصل إلى إصدار قرار عن مجلس الأمن تنص مقدمته على تحميل حزب الله مسئولية البدء بالحرب. كذلك اشتمل القرار على بنود أبعدت المقاومة عن الحدود في الجنوب واستبدلتها بقوات القبعات الزرق (اليونيفيل) إضافة إلى انتشار الجيش اللبناني في المنطقة الفاصلة بين الدولتين.
إنجاز وحيد
الإنجاز السياسي الوحيد كان القرار 1701 الذي يتضمن مجموعة نقاط ملتبسة يمكن تأويلها أو استخدامها بطرق ملتوية. أما ما وقع من ردات فعل وارتدادات لبنانية فيعتبر من نتاج تركيبة بلاد الأرز المحلية. فما حصل في البلد الصغير بعد الحرب يمكن أن تستخدمه تل أبيب لتأكيد فوزها على لبنان إلا أن ذلك لا يسجل في قائمة الانتصار بقدر ما يعود إلى ضعف الدولة اللبنانية وعدم جاهزيتها للتأقلم مع المقاومة واستثمار المواجهة سياسيا.
قلة التنسيق بين الدولة والمقاومة وتدمير لبنان وتحطيم بناه وحرق قراه وزعزعة استقراره وشل اقتصاده لا تعتبر من النقاط التي يمكن تسجيلها في خانة «الانتصار» الإسرائيلي. فهذه النتائج كانت متوقعة ومحسوبة في معادلة القوة بين «الجيش الرابع» في العالم ودولة ضعيفة ومشلولة ومحكومة بنظام الطوائف والمذاهب والمناطق.
كل التوقعات كانت تشير إلى حصول هذا الاحتمال (التحطيم والتدمير) في حال اندلعت الحرب من جديد بين الطرفين. ولم يكن هناك من رأي آخر يرجح انتصار لبنان في الحرب. المفاجأة كانت في الجانب الإسرائيلي الذي انتظر انهيار لبنان داخليا في فترة الحرب ولم يحصل هذا، والمفاجأة الأخرى أن الحرب في إطار المعادلة النسبية وما تعطيه من نتائجَ محسوبة ضمن موازين القوى أعطت مؤشرات مخالفة لكل التحليلات والتوقعات. و «لجنة فينوغراد» درست هذه المعطيات وقارنت بين التوقعات المفترضة قبل الحرب والنتائج الميدانية بعد توقفها فاكتشفت ذاك الفارق بين المعادلتين الأمر الذي دفعها إلى اتهام حكومة أولمرت بالفشل والتقصير و «الإخفاق» كما كانت حال الخلاصات التي توصلت إليها لجنة التحقيق في حرب أكتوبر 1973.
لكل هذه الأسباب جنحت حكومة أولمرت إلى اعتماد سياسة «الصمت» في مناسبة الذكرى السنوية العبرية الأولى. فهي فشلت ولم تنتصر بحسب المقارنات النسبية والتوقعات. وهذا «الإخفاق» يشكل ضربة استراتيجية للأمن الإسرائيلي وما يعنيه من ضمانات سياسية عدوانية اعتمدت على الجيش والمؤسسات التابعة إليه قوة ميدانية لا تقهر.
المسألة نسبية وهي تعتمد على عقد مقارنة بين حروب سابقة جرت على امتداد نصف قرن مع الدول العربية وهذه الحرب التي خاضتها تل أبيب ضد مقاومة في بلد مختلط طائفيا ومذهبيا.
أمام أولمرت نحو مئة يوم للبوح بالسر أو الأسرار التي تكتمت عليها «لجنة فينوغراد». وبانتظار صدور التحقيق في صيغته الكاملة والنهائية تتجه حكومة تل أبيب إلى إعادة هيكلة تحالفاتها الحزبية، وإعادة ترتيب أولوياتها، وإعادة هندسة قطاعاتها العسكرية حتى لا يكون وقع أوراق تقرير نتائج الحرب قاسيا وأقوى من قدرة الدولة العبرية على تحمّلها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1763 - الأربعاء 04 يوليو 2007م الموافق 18 جمادى الآخرة 1428هـ