فيما يتعلق بشأن الكارثة العراقية فإنه لم يعد من المألوف إعلاميا أن تتم استضافة منظرين وفقهاء سياسة ممن أصابهم المس الإمبريالي الأميركي ليبشروا العراقيين والعرب والمسلمين المستضعفين بأوان بزوغ البدر العراقي الديمقراطي في المنطقة، والذي استطاع أن يخلق من جرحه الدري قلائد ورد ويتبختر بها، واستطاع أن يمتص كامل عذاباته الكارثية التي أذاقها إياه النظام العراقي «البائد» و»المقبور» و»المدحور» ليلحق بالأمم المتقدمة بقيادات سياسية لا تقل شأنا عن «غاندي» و»نيلسون مانديلا»، وبنخب ثقافية جديدة أتت من رحم الدياسبورا العراقية إلى الجحيم الوطني بأحلام «فولتير» و»مونتسكيو» وغيرهم، فمثل هذا التبشير باسم «الواقعية السياسية الجديدة» وبرسم شبكات البروباغاندا الإعلامية الحربية أو حتى دكاكين وخانات الصحافة التي تعرض دوما خدماتها لمن يدفع أكثر ولو على حساب الموضوعية والمهنية وغيرها لن يخرج عن إطار السفاهة والازدراء لجميع القيم الأخلاقية الإنسانية!
من أراد أن يذرع ليصل إلى رحم المأساة والكارثة العراقية ينبغي أن يتجاوز رؤية العراق بصفته حلما فردوسيا طائفيا ينصر طائفة على أخرى ويحقق لها حلم الخلاص الأبدي «Salvation»، أو أن يرى من ذات قومية متعصبة وبشوفينية مغالية أن العراق قد يكون امتدادا لرؤيا قومية امبراطورية فاقعة في المنطقة تعلي من شأن نفوذ استراتيجي تاريخي ذو مهابة وعظمة لا يمكن تجاهلها، وربما لم يعد العراق ساحة لاسترداد «الكرامة العربية» السليبة، أو بقعة مؤهلة لاسترداد واستعادة «دولة الخلافة الإسلامية»، أو أن يظل محل تصارع إثني وقومي فتحل المسألة بأن يحكم الشيعة الجنوب والسنة الوسط والأكراد الشمال إذ يكون لهم حكمهم الذاتي المنتظر، وإن كنت أمقت بشدة عملية خلط الأوراق والمصطلحات كــ «مقاوم» و»محتل» و»متواطئ» التي يدأب عليها المتلبرلين العربان الجدد الذين سقط نجمهم التنظيري والفكري سريعا لصالح ليلهم الإنشائي والبلاغي والردحي!
من أراد أن يوقف العجلات النارية للكارثة العراقية عليه أن يجاهد حتما بالتقاط واستنقاد ما بقي من فتات وشتات كرامة إنسانية ممزقة ومبعثرة في قلب الجحيم هناك، عليه أن يصل إلى أطفال العراق، يستمسك بحبال قلوبهم البيضاء، ويستنجد بأكثر أحلامهم نعومة وزغبا من دون أن تدغدغ وتضحك يداه، فهؤلاء بلاشك هم عماد التواصل الإنساني في تلك الأرجاء، وهم كنه القلق الحضاري، ومثقال الثروة الحقيقية والوقود الذي يعول عليه في حفظ بقاء الوجود العراقي سليما معافى، أو حتى لأجل التعويل على صدقية المراهنات المطروحة على نجاح المقاولة الإمبريالية الأميركية في العراق على صناعة كيان حداثي قوي وقابل للاستمرار على قيد الحياة من دون الحاجة إلى فيتامينات صناعية وإبر معالجة ومساعدة، بل هي خلقت في النهاية بؤرة متقرحة استراتيجيا تصدر للمنطقة المشكلات والأزمات ومختلف صنوف الإرهاب الأعمى!
السؤال عن مستقبل العراق وعن آفاقه المقبلة يمكن التعرف على لونه من خلال التعرف على أوضاع أطفال العراق وبيئاتهم المعيشية وحواضنهم المجتمعية المتسيب والتي فيما يبدو أنها تخلو في جنون مطلق من شتى أصناف القيم العربية الأصيلة عدا قيمة الثأر وإن من دون بطولة فروسية شهمة أو تنافس عشائري وقبلي وأقوامي، فكيف سيكون حال الطفل إذا ما وضع في كيان هش مؤسساتيا منزوع السيادة والسلطة والصلاحية الحقيقة، تتقاسم نفوذه أمراء الطوائف وتجار الحروب وعصابات سرقة الأعضاء البشرية والمخدرات والدعارة التي امتد نفوذها من العملية السياسية والصيرورة المؤسساتية الجديدة إلى نساء وأطفال العراق الذي أصبحوا ملكا مشاعا في سوق النخاسة الجنسية، وأذكر في هذا الصدد ما نشرته بعض وسائل الإعلام بالصور عن عصابة متخصصة للدعارة تتولى خطف الأطفال العراقيين لتحقنهم بإبر تتضمن محاليل تتولى تشكيلهم جسديا بحسب قوانين العرض والطلب على هذه البضاعة الجنسية المرغوبة بشدة، بل تم نشر مقابلة مع أحد الأطفال الضحايا يذكر فيها ما تعرض له بالتفصيل منذ أن وقع في شباك استغلال تلك العصابات، كما تضمنت مقابلة مع أحد «التجار» و»رجال الأعمال» العراقيين المشرفين على تلك العصابات المربحة!
في دولة الميليشيات الطائفية والعصابات والتفجيرات الانتحارية واليتم المزدوج بفقدان الأهل والأحباب والأصحاب وفقدان البلد والأرض يبقى السؤال الأكثر مصيرية وجدوى مستقبلية هو «من الذي اغتال البراءة؟!»، و»ما هو مستقبل أطفال العراق كما ولدتهم أمهاتهم ؟!»، «ما هي ملامح الجيل الجديد في العراق والذي سيقع عليه عبء هذا اليتم المزدوج؟!» و»ربما يخضع لأشد أشكال الاستغلال بشاعة وفظاعة من نيران جشع مادي وطائفي وإثني لم تنطفئ؟!»، وذلك بدلا من الانشغال والاشتغال بالليالي «الجلبية» وبأسئلة الأكثرية والغالبية وتاريخ المظلومية ومستقبل التغالب والتحازب السياسي المطيف وعن محاصصات الحقوق النفطية التي لا تجدي نفعا إذا ما ظل اليتم هوية وإثنية وطائفة غالبة في العراق مهد الحضارات وصانع أجنحة الآفاق الحضارية، وأن تكون يتيما في العراق فذلك أبدا لا يطاق!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1763 - الأربعاء 04 يوليو 2007م الموافق 18 جمادى الآخرة 1428هـ