يلعب التطرف الديني دورا رئيسيا في التوتر المستمر بين الولايات المتحدة والعالم العربي: المتطرفون الدينيون يقفون على خط المواجهة العسكري في العالم العربي ويجلسون في مقاعد الإدارة السياسية في أميركا.
ويلعب المضمون الثقافي دورا في تطور التشدد الديني. في أميركا ينجذب الكثير من الناس نحو التطرف الديني لمساعدتهم على التعامل مع غربة العيش في مجتمع سريع التغير. بالمقابل يجري تجنيد بعض العرب من قبل التطرف الديني حتى يتسنى تغيير ثقافة سياسية راكدة. وفي الغرب تتطور أساليب العبادة لكي تهدّئ المجتمع في بيئة مُهيّجة بشكل زائد. وفي الشرق الأوسط تتشكل أحيانا حركات دينية متطرفة لإثارة الشغب سياسيا.
وقد أخذت الكنائس المعتدلة من التيار الرئيسي في الولايات المتحدة تخسر أعضاءها لصالح الكنائس الضخمة المحافِظة التي تعمل على تهدئة أعصاب الناس. لماذا؟ أخذ الهيكل الأسري في أميركا يضعف من جيل إلى جيل، وازدادت نسبة الطلاق والزواج ثانية، وأصبحت مجتمعات الأحياء دائمة الانتقال والحركة. وأصبح الاستقرار الوظيفي أمرا نادرا وأصبحت المنازل تُشترى وتباع كسلع عرضية. ويحاول الناس بيأس، النجاح في الكفاح ضمن وتيرة حياة ما فتأت تتسارع.
بغض النظر عن ذلك كله، ما زال باستطاعة الكثير من هذه الكنائس المحافظة على خدمة أتباعها بصدق وأصالة. ويجد ملايين المسيحيين في الولايات المتحدة والخارج شفاء روحيا وعبادة متكاملة في الكنائس الأصولية. ليست هناك أساليب سهلة لحجب العناية الرعاوية الزائفة عن الحقيقية أو للتمييز بين الوكالة الروحانية من الموقع الإنجيلي عن بعد، الذي ينحى تجاه ما يشبه التبادل التجاري. ليست هناك أساليب سهلة لفك رموز الهياكل الكهنوتية التي تديرها السياسة والرهاب الأجنبي، من الكنائس المسكونية التي تنزع نحو العدالة الاجتماعية.
في هذا المجتمع الذي يلهث وراء الإنجاز تستغل أعداد كبيرة من الكنائس المحافظة في الولايات المتحدة الاحتياجات المتزايدة لجماعات المصلين في برامج توفر راحة سريعة وسهلة للعقول المضطربة والنفوس القلقة المتلهفة.
وقد ذهبت الكثير من الكنائس ذات الشعبية الواسعة إلى أبعد الحدود في تقديمها منتجات دنيوية تخفف ذنوب المؤمنين في هذه الحياة وما بعدها. هذه المؤسسات الدينية المقصورة على جماعات محددة تقدم وصفات لكيفية الوصول إلى «مملكة الرب» من خلال تقبّل تعاليم معينة كأدوية أو بوالص تأمين. وهي تخلع الحكم العشوائي على الخير والشر، مستخدمة الكتب الدينية بصور اختيارية خارج مضمونها الأصلي. وهي تقدم مشورة وإرشادات تشبه الفتاوى والمراسيم حول الإجهاض والبحث العلمي والخيارات الجنسية. وهي ذات نبرة آمرة بشكل عدواني فيما يتعلق بالقيم العائلية والتدخل الحكومي، والضرائب والسياسة الخارجية. والأهم من ذلك بالنسبة لعالم اليوم، تراها ترفض صحة الديانات الأخرى، وبالذات الإسلام.
تنزع الكنائس الأصولية في أميركا إلى إثارة الخوف والشعور بالذنب في المجتمع، ثم تدعي بأنها تقدم منتجات تخفف من التوتر والإحباط. يستطيع المرء، من مشاهدة إعلانات الكنائس الإنجيلية المتشددة والأصولية على شاشات التلفزة، أن يتعلم مهارات التسويق الغادر وأن يقدّر فنون تغيير توجهات المشاهدين الضعفاء والمعرَّضين.
أما بالنسبة الى المتطرفين المسلمين فإن الخير والشر يوجدان جنبا إلى جنب في ممارسة الدين في المجتمعات المنفتحة والمغلقة، على رغم أن العرب يعيشون بشكل عام في مجتمعات مغلقة سياسيا. التيار الديني الرئيس في الشرق الأوسط في انحدار، بينما تتقدم الحركات المسلمة المتطرفة. ولكن لا تخطئ فهم ذلك، فغالبية مسلمي العالم وعددهم يربو على 3.1 مليارات من البشر، يعيشون في سلام ويحافظون على الإيمان بالإسلام الأصيل في التيار الرئيس. فمن المؤكد أنه في غياب القوة التكاملية للدين يصبح الشرق الأوسط بركانا سياسيا.
يريد العرب تغييرا في مواجهة المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية العديدة المتداعية، مثل مستويات المعيشة الآخذة في الانخفاض والكثافة السكانية والانتقال إلى المدن وارتفاع معدلات البطالة والانتزاع من الحياة الريفية، إضافة إلى ذلك يواجه العرب في معظم الحالات حكما جائرا ظالما وإذلالا سياسيا (في حروب متعاقبة) وتدخلا غربيا استعماريا، لا يمكن تجاهل ألم الشعب المتنامي وكربه إلى ما لا نهاية.
كثيرا ما يعجز زعماء المؤسسات الدينية في التيار الرئيس عن قول الحقيقة بشكل منفتح للقادة العرب السياسيين الجائرين. من ناحية أخرى تستطيع المجموعات الدينية المتطرفة تنظيم نفسها تحت الأرض، ويستهدف قادتها الأنظمة الحاكمة والقوى الاستعمارية على حد سواء. تتمتع المجموعات المسلمة المتعصبة بالشعبية لأنها تعبر عن إحباطات الشعب.
إلا أنها برغم شعبيتها تفتقر إلى النضج لأن تكون ابتكارية ديمقراطيا. المتعصبون دينيا في العالم العربي يتبعون ما يرون أنه تقاليد، بشكل استحواذي، فعليا وبالإكراه. مجموعات عربية كهذه، بشكل محدد، لا يهمها تمكين المرأة في المجتمع. وهم يخلعون صفة الشيطانية على الغرب ويلقون باللائمة على العالم الخارجي لمشاكلهم.
ويعتمد المتعصبون أحيانا على القوة الوحشية ويتجاهلون الاستثمار البشري. هم يتوقعون أن يصفح الإسلام عن القتل الانتحاري، إلا أن الإسلام الحقيقي الأصيل لن يعطيهم أبدا الإذن الأخلاقي لتجاهل القوانين العالمية للقتال والتمرد. عندما يتعمق المتعصبون العرب في النقد الذاتي، فقد يجدون السبيل في نهاية المطاف إلى الإصلاح الحقيقي.
لقد وقع الأصوليون والغرب في شرك دائرة من الشيطانية المتبادلة. بينما يتحول العالم إلى قرية عالمية يشن المتعصبون عبر الثقافات والحدود حروبا عرقية. الأصوليون العرب يخلعون صفة الشيطانية على الاعتدال الغربي، ويفعل الأصوليون في الولايات المتحدة الشيء نفسه تجاه العقيدة الإسلامية. يرتبط مستقبل الدين المتعصب في كل مجتمع مع مستقبل التيار الرئيسي للدين.
ففي العالم العربي، حيث تسود الأوضاع الاقتصادية وتتردى السياسة تترعرع الأصولية وتصبح أحيانا متطرفة وقد تلجأ إلى العنف. طالما بقيت المؤسسات الدينية المعتدلة تكبحها دولها الاستبدادية، لن يكون هناك أمل في احتواء التطرف والأصولية.
وفي أميركا، طالما استمرت الكنائس من التيار الرئيس في خسارة وثاقة صلتها بمجتمع يسوده التنافس والتغير السريع، فسوف تستمر الكنيسة الأصولية بالنمو حجما وفي الوقع السياسي. في عصر القلق المتنامي حول مستقبل العالم، ومستقبل الحضارة الغربية بالذات، يبدو أن الكنائس الأصولية قادرة على مجابهة الإجابات الراسخة، برغم بساطتها الزائدة وكونها مخففة مبسطة، التي يتعطّش الناس إليها.
* سكرتير الشرق الأوسط السابق في اتحاد الكنائس العالمي ومركزه جنيف، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1763 - الأربعاء 04 يوليو 2007م الموافق 18 جمادى الآخرة 1428هـ