«استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن استعمله كان كمن حارب الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف»...هذه الكلمات القليلة هي فتوى المجدد الميرزا محمد حسين الشيرازي رحمه الله، أصدرها في العام 1891م أي قبل ما يقارب 116 سنة، والتي على إثرها أفلست الشركة البريطانية التي عقدت اتفاقا له أهداف استعمارية مع الشاه ناصر الدين القاجاري بمنحها امتياز زراعة وتجارة التبغ في إيران.
هنا يتضح جليا أن الميرزا الشيرازي قد حكم بتحريم التتن على عامة الشعب مع أنه من المباحات، وهذا يعني أنه كان في موقع المتصدي للشأن العام بالإفتاء.
أن تصدر فتوى من مرجع للتقليد، فهذا يعني إيضاح الحكم الشرعي الواجب على المكلفين اتباعه، وهذا أمر متيّسر فهمه حين تكون الفتاوى على مستوى التكاليف الفردية، ولكن حين تتعلق المسألة بالشأن الاجتماعي العام، الذي يتطلب اتخاذ موقف اجتماعي واحد، فإن التصدي لهذا الشأن بالإفتاء له بعد آخر، إذ إن هذا الشأن يخضع بدرجة كبيرة للتشخيص الموضوعي من قبل أهل الخبرة، فتشخيص الموضوع وتقدير المصلحة فاصل في الحكم، يدفع الفقيه المتصدي لمخالفة الحكم الأولي (في نطاق معيّن)، فمثلا قد يحرّم الفقيه ما هو مباح في ذاته. والمسألة هنا ليست دائما بمستوى أبيض أو أسود، بل حتى الأحكام الشرعية الثابتة والتي لا خلاف عليها، فإنه في بعض الحالات قد يصبح الحرام واجبا كشرب الخمر لمن ينحصر علاجه أو بقاءه حيا فيه، والواجب يحرم القيام به كمن يصدق الحديث الذي يأتي بفتنة كبرى. وإذا كان هذا حال الأحكام الشرعية الثابتة، فكيف بالإفتاء في الشأن العام الذي يعتبر حكما شرعيا؟
وفي إطار قانون التأمين ضد التعطل، فإن هناك اتفاق على تحريم الاقتطاع من دون رضا صاحب المال، ولكن الفتوى التي صدرت بتحريم تسلم العاطلين للمخصصات من قبل عالم من العلماء، في حين أن مراجع التقليد أو غالبيتهم يجيزون تسلم المال في هذه الحالة، قد أثار تساؤل البعض بشأن جدوى هذه الفتوى في مثل هذا الشأن عندما تصدر ممن ليس مرجعا للتقليد. لا يكفي أن يقول هذا العالم «سُئلت فأجبت»، لأنه يعلم أن براءة ذمة المكلفين بإتباع مراجعهم وليس إتباع رأيه، إذ إن كل واحد سيرجع لمقلده في شأن الاستفادة من أموال صندوق التأمين ضد التعطل أو الامتناع عن ذلك، ومن هذه الزاوية فمن المتوقع أن ينقل هذا العالم أو غيره من العلماء للمكلفين فتوى مراجعهم، فلا حاجة لهم في رأيه/ آرائهم الشخصية، إذ لا تبرئ ذمتهم بإتباعها في حال مخالفتها لرأي المرجع الذي يقلدونه.
إن تحريم تسلم العاطلين للراتب مع إباحة مراجع التقليد التي يرجع لهم المكلفون لذلك، قد يعني أن من أفتى بذلك متصد للشأن العام بالإفتاء كما كان موقف الميرزا الشيرازي من قضية التنباك، يراعي مصالح عامة أخرى في حين حكم بذلك، غير أن هذا الاستنتاج ينقضه جواب هذا العالم بـ «سُئلت فأجبت»، كما أنه يُفترض بمن يتصدى للشأن العام بالإفتاء أنه متابع جيد للساحة وما تتداوله الأخبار يوميا وعلى المواقع الرسمية حتى يجنّب الساحة سلبيات الإفتاء بعد صدور القانون أو القرار، خصوصا مع مشاركة نخبة من التيار نفسه (من دون تبرئة كتلة الوفاق في موقفها تجاه القانون إن ثبت أنها لم ترجع لمرجعيتها وفقا للفكر الذي تتبناه والذي ردده رئيسها مرارا وتكرارا).
لقد تم تحويل قانون التأمين ضد التعطل منذ شهر يناير/ كانون الثاني من العام الماضي بعد ثلاثة أيام من إعلان نتائج الانتخابات، والمتابع للصحافة قرأ أنه تمت إحالته للجان المختصة التي وافقت عليه (لجنة الشئون المالية والاقتصادية ولجنة الخدمات)، والمشروع قد نشرته بعض الصحف المحلية منذ أمد بعيد، فقد صدر بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني العام 2006، وموجود على مواقع الإنترنت وبعض الموقع الحكومية، وهناك بعض الناشطين السياسيين قد سبقوا في طرح بعض الإشكالات على القانون... وبالتالي فقد جاءت الفتوى متأخرة.
أما بخصوص من رد على أسلوب الاستفتاء بالزعم بأن الدين لا علاقة له بقانون التعطّل كونه أمرا اقتصاديا بحتا، فذلك ينم عن جهل المتحدث بالأحكام الشرعية، إذ إن معظمها يركز على تنظيم العلاقات الاجتماعية من خلال أحكام الأسرة وأحكام التجارة ومعاملات وغيرها من مجالات الحياة، ومن واجب المكلفين في الفكر الشيعي معرفة تكليفهم من خلال استفتاء مراجعهم سواء قبل صدور القانون أو بعده، ولكن حين يكون الحكم بتسلم المخصصات من قبل المراجع هو الإباحة، ثم يلجأ عالم من العلماء للإفتاء بحرمة ذلك بصفته متصد للشأن العام مع وجود خلافات شاسعة في هذه القضايا الخاضعة للتشخيص الموضوعي لأهل الخبرة والشأن، فقد يتسبب ذلك في حدوث حرج لمختلف أطراف التيار الواحد وبالذات حين يصدر فتواه بعد وليس قبل حدوث الحادث، وبعد أن تُثار الضجة شعبيا في مثل هذه القضايا وليس قبل ذلك من أجل الوقاية. وعندما تكون القضية قابلة للأخذ والرد، وليست من النوع التي يُخشى فيها على الخصوصية المذهبية الدينية، فإن هذه الفتوى تعني وصد الأبواب أمام المفكرين والناشطين في المجال السياسي، وتؤسس لحالة من الجمود وتلغي الآخرين وتعطّل دورهم، وفي هذه الحالة تنتفي الحاجة لإنشاء أحزاب وجمعيات سياسية وحقوقية، ... هذا كله باعتبار أن فتوى هذا العالم تحرّم ما أباحته فتاوى مراجع الدين من تسلم العاطلين لمخصصاتهم. وهذا يدفعنا لنقترح عليه وعلى بقية العلماء باللجوء للضغط بتعديل سلبيات القانون والدعوة - مثلا - لتغييره أو أي أسلوب آخر للحديث بغض النظر عن سقفه، فهذا خير للجميع من الإفتاء بصفة التصدي للشأن العام في حالة تعذّر المتابعة الحثيثة لشئون الساحة أو تعدد الرؤى للمتصدين للساحة.
وأود التذكير بأن كل ما سبق شيء، ومشكلة تعدد المتصدين من أجل توجيه تيار واحد في قضايا الشأن العام شيء آخر.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1762 - الثلثاء 03 يوليو 2007م الموافق 17 جمادى الآخرة 1428هـ