لقد ابتدأت سيرة الشتات البحريني العظيم في القرن الثامن عشر، واطردت في تصاعد متصلٍ حتى أواخر القرن التاسع عشر، ولم تكتمل حبكتها إلا في العام 1286هـ/1869م حين تولى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة مقاليد الحكم في البلاد. وقد تميّزت العشرين سنة الأولى من حكم الشيخ عيسى بن علي بهدوء عام وملحوظ حيث «استقرّ الأهالي في أوطانهم وأمنوا النوائب» بحسب تعبير ناصر الخيري (قلائد النحرين، ص385). وجاء في وثيقة بريطانية ترجع إلى العام 1882م أن الشيخ عيسى بن علي يمتاز بالحلم «والسماحة وعدم الاستعجال في الأمور وتدارك الأمور بالهون وصلاح ما بين الطرفين، بعكس أفعال غيره من بعض الحكام في البطش والنهب وهتك الرعايا وفرارهم من ذلك من أوطانهم إلى ممالك أخرى» (شخصيات من الخليج العربي بأقلام غربية، مجلة الوثيقة،ع:24، يناير 1994، ص132).
إلا أن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو: هل يمكن أن تمرّ سنوات الخراب العظيم والشتات الهائل (1717 - 1869م) دون أن تترك آثارها وبصمتها الثقيلة على الوضع العام في البلاد وعلى التركيبة الديموغرافية فيها، وعلى «بنية الشعور» الجماعي لأهلها ومزاجهم العام الحاكم والمستحكم، وعلى موقفهم من الحكام والأمراء؟
إذا كان لا بد من البحث عن تجربة جماعية مؤسِّسة في تاريخ البحرين فإني أتصور أن تجربة الخراب والشتات هذه هي أهم التجارب المرشّحة بقوة لتكون التجربة المؤسِّسة في تاريخ أهل البحرين. فهذه تجربة قاسية استحكمت على البلاد وأهلها طوال قرن ونصف من الزمان، وطبعت الوضع العام في البلاد بطابعها المتوتر والمضطرب لسنوات طويلة. وطوال هذه السنوات كانت الحروب المدمّرة هي الشؤم الملازم للبلاد، وهي التجربة المؤسسة لمزاج أهلها، ولمسارات التطور السياسي فيما بعد. وإذا كانت الحروب لعنة قدرية ابتليت بها هذه البلاد وأهلها، وإذا كانت الحروب داء العمران ووباء عليه، فلنا بعد هذا أن نتصوّر حجم العمران الذي تقوّض وحجم الخراب الذي ضرب البلاد بفعل هذه الحروب المتواصلة. ويصور الشيخ علي البلادي المآل الذي انتهت إليه البلاد بعد كل هذا الخراب وشتات الأهالي بقوله: «فصارت أكثر رسومها عافية، وبيوتهم على عروشها خاوية، وخلت من السمير والمسامر، وانعكست عكس النقيض (...) وأقفرت من أهلها الربوع والمساجد، ودرست من أهلها المدارس والمعابد، فتجد أكثر قراها رسوما دائرة، والقليل بآثارها تحكي نضارة أهلها خرابا غير عامرة، وقد عمرت أهلها أكثر الأطراف والبلدان» (أنوار البدرين، ص47). ويرجع محمد بن خليفة النبهاني ظاهرة القرى الخربة وتناقص عدد القرى المعمورة في البحرين في العصر الحديث إلى هذه الحروب المتواصلة، فقد «كانت البحرين في السابق تحتوي على (36) بلدة وعلى (331) قرية، ولكن لكثرة تداول الحكام عليها ووقوع الحروب بها وزوال الحضارة فيها أزال عمرانها وخرّب أكثر تلك المدن والقرى، ولم يبق منها سوى ثماني مدن وبعض القرى التابعة لها» (التحفة النبهانية، ص42).
لقد تسببت هذه الحروب والوقائع المدمّرة إذا في خراب قرى بأكملها، كما تسببت في ظهور مقابر جماعية لاتزال بقاياها منتشرة في بعض القرى إلى اليوم، ففي قرية سماهيج يوجد تل في الجهة الشرقية الجنوبية من مقبرتها يضم قبورا جماعية لمن استشهدوا في إحدى هجمات الأباضيين على البحرين، وتعرف هذه المقبرة بـ «مقبرة العبيد الصّلاح» (سماهيج في التاريخ، ص213). وفي جزيرة النبيه صالح (وكانت تسمى جزيرة أُكُل) «قُتِل في بعض الوقائع في تلك المدرسة مدرسة الشيخ داود] أربعون أو سبعون عالما ومشتغلا كلهم شهداء، ولهذا يسمونها الآن كربلاء» (أنوار البدرين، ص56، وص163).
وبالتزامن مع خراب هذه القرى وزوال عمرانها، كان حجم السكان في تناقص مطرد منذ العام 1717م. وحتى إن ناصر الخيري لاحظ أن عدد سكان بلدة مهمة مثل «البلاد القديم» لا يتناسب مع حجم الآثار القديمة الموجودة بها. فهو يذكر أن عدد سكان «البلاد القديم» يبلغ، في أوائل العشرينات من القرن العشرين، «5 آلاف نسمة كلهم عرب شيعيين، وكانت في سابق أيامها أكثر سكنا وأعظم شأنا بدليل الآثار القديمة الموجودة بها، والذي حطّ شأنها كثرة المهاجرين منها لأسباب مختلفة أهمها توالي الحروب الماضية» (قلائد النحرين، ص433). ومن المؤكد أن حال القرى الأخرى لم يكن بأحسن من حال «البلاد القديم». ولقد مثّل هذا الحجم المحدود من شيعة البحرين البقية الباقية من سكانها المحليين الذين التصقوا بتراب الأرض بعد مرور الزلزال وانجلاء كابوس الشتات العظيم والخراب المدمّر.
إلا أن هذه البقية المنهكة من شيعة البحرين استفاقت بعد انقضاء زمن الخراب والشتات على حقيقة بالغة الخطورة فيما يتعلق بصوغ وجدانهم الجماعي، وهي أن البحرين لم تعد كما كانت بلد «الإيمان والمؤمنين»، وأن «التشيع» لم يعد هو هويتها العامة والخالصة. وهو ما جعل وجدانهم الجماعي موسوما بالحسرة المزمنة والشعور المعذَّب بالفقدان الدائم. والأهم أن هؤلاء استفاقوا على وضع ثقافي وتعليمي متردٍ وفي غاية السوء والتأخّر، وأن معظم الأهالي صاروا يعيشون في جهل منتشر بصورة كانت لافتة لكل من دقّق في أحوالهم بعد هدوء العواصف ومرور الزلازل. فالشيخ علي البلادي يلاحظ أن «في هذه الأوقات والأزمان» غلب على من في البحرين «الجهل والعصيان» (أنوار البدرين، ص50)، ويلاحظ ناصر الخيري أن «حالة البحرين العلمية» كانت مزدهرة، و»كان لها حظ وافر من العلم والأدب وقدح معلّى في فنون الآداب والمعارف»، إلا أن هذا كان في «غابر الأزمان» أما اليوم فإن حالة المعارف فيها «متأخرة جدا، بل قل إنها معدومة، ويبلغ من يحسن القراءة والكتابة البسيطتين باثنين أو ثلاثة بالمائة، وليس فيها مدارس علمية ولا معاهد تهذيبية على النسق الحديث» (قلائد النحرين، ص10). وهو الأمر ذاته الذي لاحظه من بعده محمد علي التاجر، وهو يذكر أن البحرين كانت في «القرون الوسطى ذات معارف عالية وسوق العلم فيها رائجة وفطاحل العلماء وجدوا فيها بكثرة متناهية (...) ولكن استحوذ الشقاء بعد ذلك على بلاد البحرين، وتلت قرون الأمن والأمان قرون الغزو والسلب والظلم والإرهاق فطاردت العلم والعلماء وأخلت منهم الديار وشتتهم في الأمصار إلى مثل فارس والهند والعراق، وبقيت مواضع العلم ومدارس التدريس تندب قاطنيها لوحشتها بعدهم (...) وبقيت البلاد تتخبط في الجهل والأمية إلى الزمن الأخير» (عقد اللآل، ص26).
أما المحصلة النهائية لهذا فهي أن البلاد خلت من العلماء والمتعلمين، ومن الفقهاء والمرجعيات الدينية العظمى ممن كان شيعة البحرين يرجعون إليهم في الفتوى والولاء الديني. واللافت حقا أن معظم المرجعيات الدينية البحرينية المشهورة آنذاك قد تشتت في الأقطار أو قتلت إبان الهجمات والحروب المتعاقبة في هذه الحقبة الممتدة بين (1717 - 1869م)، ويكفي أن نذكر أن من بين هؤلاء الذين امتُحِنوا بالشتات والقتل مرجعيات كبرى من أمثال الشيخ عبدالله السماهيجي والشيخ أحمد بن إبراهيم آل عصفور والشيخ عبدالله بن علوي الغريفي والشيخ ياسين البلادي والشيخ يوسف البحراني والشيخ حسين آل عصفور والشيخ عزيز والشيخ خلف بن عبدعلي آل عصفور والشيخ حسن الدمستاني (ت1181هـ/1764م) صاحب القصيدة الحسينية المشهورة (أحرم الحجاج) والذي خرج إلى القطيف في «إحدى الحوادث والوقائع الواقعة على البحرين التي لا تخلو منها في أغلب السنين» (أنوار البدرين، ص190). ويعتبر الشيخ محمد أمين زين الدين (1914 - 1998م) آخر مرجعية دينية بحرينية، وهو أساسا من بحرينيي الشتات حيث وُلِد في محافظة البصرة، وانتقل إلى المحمرة، ثم استقر في النجف الأشرف وتوفي فيها. إلا أن الانعكاسات السلبية لهذا الغياب المؤلم لمرجعيات البحرين الدينية سيدفع ثمنه شيعة البحرين في أواخر القرن العشرين، حيث سيكتب على هؤلاء أن يواجهوا امتحان التشكيك في الولاء وازدواجه من خلال الخلط المغرض بين الولاء السياسي والولاء الديني لمرجعيات دينية تقيم في إيران والعراق.
لقد كان لتجربة الشتات حكمها النافذ في تهجير العلماء وتخريب دور العلم وإشاعة الجهل والأمية بين الناس. وحدث إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن هاجرت أسر علمية كبيرة «بسبب الحوادث والوقائع التي كانت تلمّ بالبلاد في فترات متعاقبة من تاريخها. كهجرة السادة آل البلادي الغريفيين إلى بهبهان بإيران في القرن الثاني عشر الهجري بسبب الهجمات الخارجية على البحرين في تلك الفترة، والتي استمرت حتى عهد ليس ببعيد، أو هجرة أفراد من السادة آل مشعل في القرن الثالث عشر الهجري إلى البصرة والمحمرة لاضطراب الأحوال يومئذٍ، وفي مثل تلك الظروف نزحت جماعة من آل عصفور إلى شيراز وأبو شهر وغيرهما من بلاد فارس» (أسر البحرين العلمية، ص13). إلا أن هذه الهجرات وخراب دور العلم مهّدت الأرضية لاستقبال النخبة المتعلمة العائدة من الشتات في «الزمن الأخير» الذي يتحدث عنه التاجر. واللافت حقا أن أهم الفاعلين السياسيين والدينيين والثقافيين الذين ظهروا في المجتمع الشيعي في هذا «الزمن الأخير» هم من «بحرينيي الشتات» ممن كانوا في المهاجر لأسباب متعددة، وقد اضطلع هؤلاء حين عودتهم بدور «النخبة» وكان لهم تأثير واضح في تحوّل الوضع السياسي والديني والثقافي العام في البلاد. ويكفي أن نذكر أن الشيخ خلف العصفور (1868-1936)، وهو أهم شخصية دينية شيعية عرفتها البحرين في بداية القرن العشرين، جاء إلى البحرين قادما من الشتات في بوشهر في العام 1898م، وأن الشيخ أحمد بن عبد الرضا بن حرز (1852- 1918م)، وهو شخصية قضائية مهمة وأول من أسس الجمعة في جد حفص في العصر الحديث، جاء إلى البحرين قادما من لنجة في العام 1899م، وأن ملا عطية الجمري، وهو أشهر شاعر وخطيب حسيني عرفته البحرين، رجع إلى البحرين في العام 1338هـ/1919م قادما من المحمرة، وأن إبراهيم بن عبدالحسين العريض، وهو أهم شاعر بحريني طليعي في تلك الفترة، جاء إلى البحرين من الهند في العام 1925م. كما كان سلمان التاجر (1875-1925م) وشقيقه محمد علي التاجر يقيمان مع عائلتهما في الهند، وقد استقرّا في البحرين في العام 1911.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1761 - الإثنين 02 يوليو 2007م الموافق 16 جمادى الآخرة 1428هـ