مثلي كما غيري من العرب المهتمين بالشأن العام تابعتُ المراحل الاحتفالية الممتعة لمظاهر التسليم والتسلم للسلطة من رئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير إلى رئيس الوزراء الجديد غوردون براون. وبدرجة لا تخفى من الاهتمام والإعجاب رأى عشرات الملايين من الناس خطوات التغيير في السلطة المرسومة بدقة دستورية وتراثية التي صاحبت الانتقال السلمي للسلطة، إذ إن مثل هذه المظاهر هي حلم غير ممكن التحقيق في العالم الثالث ككل، ولدى العرب خصوصا.
يحفظ تاريخ العرب الحديث، كل ما دق الكوز الجرة، ذكرى تنازل سوار الذهب عن السلطة في السودان في زمن مضى، إلا أن تلك الحادثة تشوبها بعض التفاصيل السلبية التي واكبتها ويبرز السؤال: هل تنازل سوار الذهب أم «دُفِع» إلى التنازل؟
كل ذلك جعل الحادثة كلها ليست تقليدا يحتذى بل معزولة عن البيئة السياسية، بدليل أنها كانت الوحيدة كبيضة الرخ الأسطورية يتحدث عنها كثيرون ولكنهم لم يروها تتكرر في أماكنَ أخرى، فلم تتكرر الحادثة الحضارية في السودان أو غيره، فعاد انتقال السلطة يخضع إلى البيان العسكري الأول للانقلابيين. الحديث عن تجربة موريتانيا من جهة أخرى في الانتقال السلمي للسلطة قد يكون أيضا محطة أخرى في التجربة العربية، ولكن كلما اتضحت الصورة أكثر تبيّن أن ليس من المؤكد أنها يمكن أن تستمر لتؤتي أُكُلَها في بلدها، وثانيا يستطيع أي مراقب أن يقطع أن ما حدث في موريتانيا ليس له تأثيرٌ في غيرها من البلاد، فهي كحكاية سوار الذهب واحدة لا تتكرر.
بلير في صبيحة يوم الأربعاء الماضي كان رئيس وزراء لدولة كبيرة ومهمة تملك أسلحة نووية وحق الفيتو في مجلس الأمن، ويحارب جيشها في منطقتين خطرتين هما أفغانستان والعراق، ثم في نهاية اليوم كان فقط بلير المواطن، يركب المواصلات العامة التي تتأخر، ولا يسير بجنبه رجل أمن مسلح أو غير مسلح. لقد فقد كل حصانة، بل ومَثُلَ أمام المحقق العدلي مباشرة للإجابة عن أسئلة متعلقة بشبه فساد قيل إن الحكومة البريطانية في عهده قد قدمت أوسمة شرفية نتيجة تبرع بعض رجال المال للحزب الذي يترأسه أو التي عُرِفت بفضيحة «الأموال في مقابل أوسمة الشرف».
ذلك المعنى بشموليته لا يُحسب للأشخاص، بل يحسب للنظام الذي ارتضاه الناس، وقرروا أن يطبقوه. صلب ذلك النظام هو «المؤسسات» التي تعني أن لا تقديس أو عصمة للأشخاص، فهم معرضون كغيرهم للصواب والخطأ، وخصوصا في العمل السياسي الذي يخضع إلى التقدير والتوقع، أكثر ما يخضع إلى حسابات دقيقة يمكن أن يتوصل إليها الإنسان باستخدام القلم والورقة.
ولم تمر أربع وعشرون ساعة على ذلك الحدث حتى أراد التاريخ أن يثبت لنا نحن العرب كيف يمكن أن يؤثر انعدام ضمور المؤسسات في العمل السياسي على مصيرنا، ويظهر بما لا يدع مجالا للشك كيف أن مجتمعاتنا منخورة بآثار المحاباة والنفوذ.
فقد نقلت الأنباء «انتحار» أو سقوط أشرف مروان زوج الابنة الكبرى للرئيس الراحل جمال عبدالناصر وموضع ثقة الرئيس المصري الراحل أنور السادات. وقد عمل الرجل في المكاتب الحساسة للدولة المصرية ذات العتمة السياسية لفترة طويلة تقلب فيها في مناصبَ جد خطيرة. أشرف مروان ظهر اسمه في اتهام من رئيس الموساد السابق في وثيقة منشورة بزعم أنه «عميل مزدوج» لـ «إسرائيل» في وقت حساس جدا من الصراع العربي - الإسرائيلي، بل نقلت الأنباء أنه بدأ اتصاله بالدوائر الإسرائيلية وهو قريب من عبدالناصر نفسه.
وهنا يجب المقارنة. فلو تتبع أحد أشرف مروان في تلك الفترة وأشار بأصابع الاتهام إليه، حتى بإثارة الشكوك حوله لانقلبت الدنيا عليه وربما ذهب وراء الشمس، لا لشيء إلا لأنه قريب السلطة وموضع ثقتها لا غير. حتى بعد أن نشر كتاب رئيس الموساد الذي حمل الاتهام لم يتحرك جهاز من الأجهزة كي يقول للجمهور إن شيئا من التحقيق قد أخذ مجراه وإن «المتهم» ثبت لدينا بالدليل أنه فقط اتهام وليس حقيقة أو إنه حقيقة تحتاج إلى متابعة! لم يحدث لا هذا ولا ذاك.
الصورتان فيما تقدم واضحتان في التناقض، وفي أيام قليلة بين مجتمعات قررت أن تعيش العصر وتعتمد المؤسسة، وأخرى يعرض أبناؤها للقتل والفناء في ساحات المعارك المختلفة جراء «ضعف» بعض الأشخاص، إلا أن هؤلاء الأشخاص بسبب غياب المحاسبة وطغيان «العصمة» وتبديد عمل المؤسسات لا يُساءلوا عمّا فعلوا، في الوقت الذي يَمْثُل رئيس وزراء بريطانيا بعد أربع وعشرين ساعة من تاريخ تركه المنصب أمام العدالة.
تكمن في هذه المعادلة البسيطة والواضحة كل عللنا وهي تآكل عمل المؤسسة التي تثبت من «عصمة» المسئول بل أقربائه وانسبائه عن المسائلة مهما ارتكب من خطايا وأخطاء وحماقات في حق مجتمعه ويؤدي كل ذلك إلى عدم الكفاءة التي تنبع منها كل الشرور.
كان الوجه التطهيري للاستبداد الذي ساد في الكثير من المجتمعات العربية هو «العداء» لـ «إسرائيل»، وكان العرب يغضون الطرف عن الاستبداد اللاحق بهم بسبب أن «الأنظمة» في طور «مقاومة» «إسرائيل» وخططها لذلك لابد من التسامح مع كبائرها، ثم يتبيّن أن اقرب من لهم له علاقة بالعمل السري تجاه «إسرائيل» هم زبائن تلك الأنظمة. لقد استُخدِم الخضوع القسري للاستبداد لتفويت ممارسات تحت الظلام والاتصال بالعدو المعلن عنه!
الاستبداد لا يريد أن يفصح عن ممارساته في الظلام ويغطيها بشعارات مختلفة تضلل العامة، ولم تتحرر أمة في تاريخ العالم الحديث من ضيقها الاقتصادي أو خضوعها إلى محتل وهي مكبلة العقول، الحرية أولا، وهي التي جعلت ذلك التغيير الحضاري في بريطانيا يحدث على رغم ما قلت إن الجيش البريطاني يخوض حربين! هل وصلت إليكم الصورة!
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1761 - الإثنين 02 يوليو 2007م الموافق 16 جمادى الآخرة 1428هـ