أربعة ملفات ستُبحث خلال اللقاء الروسي - الأميركي الذي يجري على مدار يومين بين الرئيسين فلاديمير بوتين وجورج بوش في ولاية مين الأميركية. فاللقاء أقل من قمة إذ أحيط بأجواء الضيافة العائلية والسياحة وصيد السمك، ولكنه يشكل مناسبة للبحث في نقاط ساخنة هددت بعودة العلاقات من «السلم البارد» إلى «الحرب الباردة».
حتى الآن لا يُتوقع أن تصدر عن اللقاء تلك الاختراقات المتوقعة ويرجح أن تبقى المباحثات عرضة للمزيد من التداول نظرا إلى الغشاوة التي أخذت تسيطر على علاقات الدولتين بعد أن أطلقت تصريحات سلبية انتقدت فيها واشنطن ما أسمته بتراجع الديمقراطية في روسيا وهاجمت فيها موسكو السياسة الأميركية ووصفتها بالتسلط والنزوع إلى الهيمنة.
الانتقادات العنيفة المتبادلة جاءت على خلفية الاختلاف على معالجة الملفات الأربعة وتشمل موضوع نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، واستقلال كوسوفو عن صربيا، وقضايا «الشرق الأوسط» ومن ضمنها مشروع تخصيب اليورانيوم في إيران، ومسألة «الإرهاب» الدولي الذي امتد من أفغانستان إلى أوروبا الغربية (تفجيرات بريطانيا الأخيرة).
التوتر الذي أصاب علاقات الدولتين لم يندلع من فراغ وإنما تأسس على خلفية نمو تعارضات في وجهات النظر بسبب اتهام موسكو إدارة واشنطن بعدم احترام توازن المصالح واتباعها أسلوب التعامل الفوقي مع الدول. وجاء النقد الروسي في لحظة كانت واشنطن تتحرك في سياق خاص دأبت على انتهاجه منذ تسعينات القرن الماضي. وشكل نقد بوتين القوي مفاجأة لإدارة جورج بوش التي لم تتوقع أن يصدر مثل هذا الكلام عن طرف ضعيف هزم في «الحرب الباردة».
كلام بوتين أعاد رسم صورة مشوشة عن ذكريات مضت، ولكنها قابلة للعودة في حال أصرت واشنطن على التعامل مع الدول الكبرى وكأنها مجرد شاهد زور على سياسات تلبي مصالح الولايات المتحدة ولا تراعي أصول الشراكة الدولية وما تعنيه من ضمانات للسيادة والأمن والحدود.
لم يقتصر كلام بوتين على توجيه الملاحظات العامة وإنما ذهب إلى تفصيلات كل ملف. فالدرع الصاروخية اعتبرتها موسكو أنها تشكل خطرا مباشرا على حدودها الغربية وأمنها القومي وألحقت رفضها لنشر الصواريخ بسلسلة إجراءات مضادة واقتراحات تضمنت نقل قواعدها من شرق القارة (المعسكر الاشتراكي سابقا) إلى تركيا أو العراق أو أذربيجان حيث عرض بوتين على بوش محطة رادار مشتركة هناك.
مسألة استقلال كوسوفو اعترضت موسكو عليها بوصفها قوة ضغط على حليف تقليدي (صربيا) يعاني تبعات حصار دولي وعزلة أوروبية. فالرئيس الروسي وجد في سياسة الإصرار على مسألة الاستقلال خطوة تصعيدية تستكمل تلك الحرب التي وقعت في تسعينات القرن الماضي وتستهدف إضعاف صربيا وتطويقها بدول ضعيفة تحتاج دائما إلى مساعدات وتعزيزات لمواجهة التوتر الأمني الدائم في منطقة البلقان. فاستقلال كوسوفو يعني من وجهة نظر موسكو تأسيس مواقع ثابتة للحلف الأطلسي وتبرير الدور الأميركي في بقعة جغرافية استراتيجية تمنع روسيا من العودة لبناء أو ترميم علاقات الصداقة التقليدية مع بلغراد.
الشرق الأوسط وإيران
«الشرق الأوسط» الممتد من أفغانستان وباكستان إلى العراق والمشرق العربي ومصر والسودان يحتل أولوية في التجاذب السياسي بين الدولتين في اعتبار أن معظم دول شريط الأزمات يقع على حدود روسيا الجنوبية الأمر الذي يهدد أمن الاتحاد الروسي ويحد من طموحات موسكو في نسج علاقات مستقرة مع دول غنية بالنفط وتمتد على شواطئ المياه الدافئة.
وبسبب أهمية «الشرق الأوسط الكبير» المركزية في العلاقات الدولية برزت أزمة الملف النووي الإيراني على سطح التجاذبات السياسية بين الدولتين. فموسكو قدمت الكثير من التنازلات للجانب الأميركي وذهبت معه خطوات عميقة في اتجاه عدم الاعتراض على تلك القرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن بشأن مشروع التخصيب. ولكن موسكو لم تجد من واشنطن الرد المناسب الذي يتوازن مع تلك التنازلات التي اتخذتها بشأن دولة مهمة تقع على حدودها الجنوبية وتعتبر شريكا في مجموعة قطاعات وحقول عسكرية ونفطية (بحر قزوين) وتقنية (مفاعل بوشهر).
عدم اكتفاء واشنطن بذاك الحد من التنازلات الروسية دفع موسكو إلى اتخاذ خطوات متشددة في مجلس الأمن منعت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من استكمال خطوات الضغط والعزل وحصار إيران. وساهم الموقف الروسي المدعوم من الصين في تكبيل واشنطن والحد من اندفاعها باتجاه اتخاذ قرارات تصعيدية تغطي مشروع الحل العسكري. فموسكو ترفض حتى الآن اللجوء إلى القوة لحسم الخلاف الدولي على الملف النووي وقدمت إلى طهران مجموعة خيارات بديلة لقطع الطريق على سياسة الاستعداء التي تنظمها واشنطن بذرائع مختلفة.
الملف الرابع يتصل بالإرهاب وتفرعاته ومصادره المتفرقة ومنابته المتنوعة. وهذا الملف الشائك تعاني منه روسيا التي تعرضت لضربات عنيفة في العاصمة والكثير من المدن والمناطق و «الجمهوريات» كما هو حال الولايات المتحدة التي ساهمت في إطلاق سراح «القاعدة» من جبال تورا بورا إلى ساحات أوروبا و «الشرق الأوسط». ويرجح أن يكون هذا الملف مشروع تسوية بين البلدين نظرا إلى خطورته على أمن أوروبا الغربية وحدود روسيا الجنوبية ومصالح أميركا وموقعها وسمعتها ودورها في حماية من تعتبرهم الأصدقاء في دائرة استراتيجية وغنية بالنفط.
هذه الملفات ستكون مدار بحث بين الرئيسين على مدار يومين، وهي تعتبر قاعدة انطلاق لتحسين العلاقات بين الدولتين بعد أن شهدت تدهورا ملموسا أعاد إلى الذاكرة صورة مهشمة عن فترة «الحرب الباردة».
روسيا من جانبها تعتبر الملفات الأربعة ساخنة؛ لأنها تمس مباشرة أمنها القومي وتعرض حدودها الغربية (الدرع الصاروخية) والجنوبية (إيران) للخطر في حال أصرت واشنطن على السير في اتجاه التصعيد العسكري. كذلك ترى في مشروع استقلال كوسوفو خطوة تستفز مصالحها التقليدية التي تربطها مع دولة كان لها موقعها المميز على البحر المتوسط.
أميركا من جانبها تتعامل مع روسيا انطلاقا من سياسة فترة «السلم البارد» وترى أن موقع موسكو لم يصل بعد إلى نقطة متقدمة تسمح لها بالتفاوض مع واشنطن على سوية واحدة كما كان أمرها في فترة «الحرب الباردة». ولذلك تعاطت بداية مع الاعتراضات الروسية بشيء من السلبية، وأحيانا تجاهلتها في اعتبار أن من حق الولايات المتحدة أن تفعل ما تريده وليس من حق الاتحاد الروسي تعطيل مصالحها وسياساتها القومية والأمنية. وأدى هذا التجاهل إلى استفزاز الرئيس بوتين وقرر في قمة الاتحاد الأوروبي توجيه انتقادات قاسية دفعت إدارة بوش إلى الانتباه وإعادة قراءة الحسابات ضمن معادلة جديدة.
الآن كما تبدو الأمور من خلال تلك الدعوة إلى عقد لقاء ثنائي (سياحي وعائلي) في ولاية مين الأميركية، ان واشنطن أعادت ترتيب جدول أعمالها في إطار توازنات تحترم المصالح المتبادلة. والاحترام يعني في المفهوم السياسي التنازل عن مواقع مقابل أخرى، كذلك يعني القبول بالتفاوض على ملفات خلافية وربما الاستعداد للذهاب نحو المشاركة وتوزيع الحصص. وفي هذا الإطار يمكن أن يشكل مشروع «الدرع الصاروخية» قاعدة للتفاوض على ملفين أحدهما بارد (كوسوفو) يمكن تأجيله والآخر ساخن (إيران) لا يحتمل التأجيل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1761 - الإثنين 02 يوليو 2007م الموافق 16 جمادى الآخرة 1428هـ