عشرات المبادرات التي طرحت لحل هذه القضية، أعني أزمة دارفور، بعضها نظمه الزعيم الليبي معمر القذافي، ومنها اتفاق أبوجا الذي شهدت عليه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وأخرى قامت بها تشاد المجاورة التي تربط رئيسها علاقات قرابة بقادة بعض الفصائل المتمردة في دارفور، ومنها ما بادرت به السنغال ومصر والسعودية في جدة بالإضافة إلى مبادرة من الجامعة العربية وأخيرا مبادرة «أهل السودان» التي سترفع توصياتها إلى المبادرة القطرية التي تجد قبولا واسع النطاق سواء على مستوى إفريقيا أو الدول الغربية.
كل هذه المبادرات رمى بها متمردو دارفور عرض الحائط ويصفون كل مبادرة أنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به لماذا؟.
وفي الواقع، التمرد في دارفور ما كان ليكون لولا استلهام القائمين به نتائج المحادثات التي جرت مع قادة تمرد جنوب السودان التي أفضت إلى اتفاق سلام أنهى عشرين عاما من الحرب الأهلية ولكن هذا الاتفاق جاء بضغوط غربية وخصوصا من أميركا إذ حصل بموجبه جنوب السودان أو متمردو الجنوب على مكاسب أكثر مما كانوا يحلمون وكانت هذه المكاسب سببا لاندلاع حروب أخرى في أقاليم السودان المختلفة منها تمرد شرق السودان الذي احتضنته إريتريا ودارفور الذي احتضنته تشاد بطريقة غير مباشرة، وذلك لأن اتفاق سلام الجنوب نص على وجود جيشين شمالي وجنوبي، وعلى استفتاء لتقرير المصير، أي الخيار بين الوحدة والانفصال، ونص على تقاسم الثروة والسلطة وكأن البلاد ليست وطنا واحدا. كان هذا الاتفاق تمهيدا لانفصال جنوب السودان في العام 2011 بنسبة 90 في المئة.
عندما استلهم بعض الدارفوريين هذه المكتسبات الجنوبية حملوا السلاح على حكومة الخرطوم ولكنهم أصبحوا يقلدون الجنوبيين في كل شيء... فإذا كانت حرب الجنوب استمرت أكثر من عشرين عاما... يريد متمردو دارفور تحقيق هذه المدة ولو على أشلاء الغالبية الصامتة في الإقليم التي لم تحمل السلاح، وربما تساورهم (متمردو الإقليم) أنفسهم بالانفصال وهذا بالطبع من المستحيلات لأن دارفور تختلف عن الجنوب في كل شيء وغالبية أهل دارفور لا تتبنى هذا المبدأ.
لقد سارعت حركة «العدل والمساواة» المتمردة إلى رفض توصيات مبادرة «أهل السودان» التي شارك فيها زعماء لأحزاب معارضة لها وزنها وأحزاب كبرى جاء قادتها السابقون باستقلال السودان 1956. كل هؤلاء قالوا كلمتهم وقدموا توصيات جادة قبلها الرئيس عمر البشير... ولكن قبل أن يكمل البشير إعلان خطاب اعتمادها والموافقة بما جاء فيها سارع قادة التمرد اللئام إلى رفضها عبر الفضائيات والإذاعات العالمية. هؤلاء القادة المتمردون لا تهمهم معاناة النازحين الذي يفترشون العراء ويلتحفون السماء لأنهم قابعون في الفنادق الخمس نجوم في العواصم الغربية ويتلقون النثريات والمعونات من منظمات معادية للسودان تعتبرهم لاجئين ومناضلين في آن.
كل هذا ما أعلن في الظاهر، وأما ما أخفي فأعظم. يرتبط قادة حركة «العدل والمساواة» بالزعيم الإسلامي المنشق عن نظام البشير وعرابه في بداية ثورة الإنقاذ حسن الترابي. لذلك لا نتوقع، ما لم يعطي الترابي الضؤ الأخضر للقادة الميدانيين بتوقيع اتفاق سلام فإنهم لن يقدموا على ذلك.
إن الوضع الدولي تغير مع التغيير الذي حدث في أميركا، فالرئيس المنتخب باراك أوباما صرح بأنه لن يربط نفسه كثيرا بلوبيات الضغط في الكونغرس وغيره. ومن هذا المنطلق على الحركات الدارفورية ألا تتوقع أن يحدث تغيير للنظام الحالي من الخارج وخصوصا أن هناك انتخابات رئاسية ستنظم العام المقبل... ومازال الإخوة العرب يمدون أيديهم لإحلال السلام في دارفور. فإذا ما أصرت هذه الحركات المسلحة على تعنتها فإن القضية برمتها سيعتريها النسيان وتذهب أدراج الرياح.
ثم لماذا تربط هذه الحركات قضيتها بما حدث في جنوب السودان؟ فإذا كانت حرب الجنوب استمرت عشرين عاما إلا أنها لم تكن بهذا الزخم والشهرة التي حصلت عليها أزمة دارفور خلال خمس سنوات فقط بسبب معاصرة الأخيرة لتكنولوجيا تقنية المعلومات والفضائيات والإنترنت وفوق كل ذلك وجود إدارة أميركية متطرفة ألّبت الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية للنيل من السودان. فعلى على مسلحي دارفور أن ينتبهوا ويدركوا قطار السلام قبل فوات الأوان.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2262 - الجمعة 14 نوفمبر 2008م الموافق 15 ذي القعدة 1429هـ