تكتب النظم والدساتير في مختلف الدول الحيّة، ويتأمل كاتبوها من كل حرف يكتب أن يربط المجتمع بدولته، وأن يربط أبناء المجتمع ببعضهم، عبر تأكيد القيم الكبرى والمشتركة للجميع، فتتحرك مؤسسات الدولة ويرتفع بناؤها وهي في كل ما تبذل تحاول خطب ود المواطن، وانتزاع شكره وتقديره لرسالتها بعد أن يشعر بذاته وكيانه إلى جانب أبناء بلده ودولته من خلالها.
في الجانب الآخر يركز الوطنيون من أبناء المجتمع جهدهم وأقلامهم وأنشطتهم، من أجل الدعوة لهذا الترابط البيني، لأنهم يرونه الوسيلة الوحيدة للنمو والازدهار، ويعتقدونه السبيل القادر على توفير الأمن الداخلي والحماية من الأخطار الخارجية، والقادر على ترسيخ شعور صادق بالحب للكيان العام، والمحرك الحقيقي نحو العطاء والفداء والولاء لتراب الوطن.
هذه الصورة قد تنعكس تماما في المجتمعات الميتة، فيصبح الترابط أو التواصل بين أجزاء المجتمع ومكوناته في آخر القائمة ونهاية الاهتمامات، فلا يقارب إلا نزرا، ولا ينشط إلى قليلا، وغالبا ما يكون ذلك التنشيط في سياقات عامة وكلمات فضفاضة، لا تسمن ولا تغن من جوع، كما إنها لا تؤدي غرضا ولا تثبّت استقرارا.
يجب الإشارة هنا إلى أن السبب في ضمور الترابط والتواصل ليس بالضرورة هو التفريط والمعاندة، أو الانطلاق من قناعة مريضة وخاطئة، فنحن نألف أمورا كثيرة يزداد هجراننا لها بسبب المتاركة والتساكت وإن كانت نفوسنا تواقة إليها وسعيدة بحصولها، لكن وقبل أن أسطح الأمر أقول: إن الترابط يحتاج إلى أمرين أساسيين يمكن أن يأخذا بيده وينطلقا به إلى موقعية تستعصي على المتاركة والتساكت، بل يجعلانه في دائرة الحضور والانكشاف الدائم.
الأمر الأول هو أن يتحوّل إلى سياسة ثابتة في مؤسسات الدولة المترامية على تراب الوطن والساعية لخدمة مواطنيه وأخص بالذكر هنا مؤسستين مهمتين هما: الإعلام والتعليم، الأولى بما لها من أثر في تشكيل نظرة الناس وتوجيه مسارات تفكيرهم بمادتها الجذابة والمثيرة التي لا تنقطع، والثانية (التعليم) بما تتبناه من مناهج تعليمية تلعب دورها وتؤثر أثرها في تشكيل الوعي الأول أو البنية التحتية لعقلية النشء وهو يتقدم في مراحله الدراسية، فما أن تكرّ الأيام وتتقادم حتى يبني على ضوئها تصوراته عن الأشياء والأمم والمجتمعات.
ولكي نعطي الأمر حقه لا بد من القول إن هاتين المؤسستين معنيتان بتأكيد الحضور الإيجابي لكل المجتمع، لكي يقرأ مواطنُنا وطنه كله، وليسمع وطنه بأكمله، وليعرف أهله على امتداد تراب وطنه الغالي، فلكل جزء من أجزاء وطننا شخصية منسجمة مع الوطن الكبير، لكنها شخصية من المفيد أن تعرف بواسطة علمائها ومفكريها ومثقفيها وفنانيها، تماما كما يقال ذلك عن الأدب والشعر والفن في كل منطقة من مناطق المملكة.
وزارة للتواصل والترابط
إذا كانت القوة والعزة والمنعة في أي وطن لا تبنى إلا على قاعدة الترابط والانسجام الاجتماعي والتواصل الإيجابي بين مكونات المجتمع، فمن العقل أن يكون هذا الهدف (الترابط) منشودا بذاته، وأن ترسم له الخطط، وتوظف له الإمكانات المطلوبة، ويعطى من العناية ما يستحق.
وإذ كان إنشاء شبكة من الطرق والمطارات لربط مناطق المملكة جغرافيا ببعضها يحتاج إلى وزارة (وزارة للمواصلات) فإن الترابط الوطني، والتواصل بين أهل التراب الواحد يحتاج إلى وزارة مهمتها تسهيل التواصل بين الأفكار والقناعات والآراء وإن تباينت أو اختلفت، وعلى منوال ما تصنع وزارة المواصلات حين تذلل عقبات الطرق، فإن مهمة هذه الوزارة أن تذلل موانع التواصل، وترسم الطرق المناسبة إليه، وتحمل على عاتقها مهمة أن يتشكل هذا الكيان (الوطن) من المجموع، فاليد فوق اليد، والكتف إلى جانب الكتف، والقلوب لا تحمل إلا الخوف على الوطن، والحب لإنسانه.
إن الحاجة إلى وزارة فاعلة في هذا الاتجاه ليست عبثا ولا ترفا ولا شعارا مجردا، إنها اليوم حاجة ماسة وضرورة قائمة، ولا يغير من ذلك دفن الرأس في التراب، والتستر على الحقائق الميدانية التي أصبحت بسطوعها تكشف عن نفسها لتنادي الجميع ألا فانتبهوا وتعاونوا وتكاتفوا، فإن الأخطار تلفكم من كل حدَب وصوب، وأنتم محملون أمانة الوطن ومسئولون عنها.
اختم مقالي بكلمة قصيرة للكتّاب والمثقفين وأصحاب الرأي، بأن لا يبخلوا في إثراء فكرة التواصل والترابط الاجتماعي، وأن يرووها حتى الإثمار والنضج بأقلامهم ومحاضراتهم وأفكارهم المؤثرة، و ألا يهجروها أبدا فهي خيارنا كمجتمع، وسواها عذاب وضياع وانهيار لكل بناء تعب فيه آباؤنا وأجدادنا.
فليكن الموضوع في اتقاد وحضور دائم، وتعاهد مستمر بين أسبوع وآخر لنسلط الضوء على زاوية من زواياه، نشبعها بحثا وأفكارا وتصورات، وننقذها من الذبول والموت والنسيان؛ لأن كل متروك ضائع ومندثر، وفي ضياع الترابط بين أبناء مجتمعنا اندثار ووهن لمواقع القوة والعنفوان فينا.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1760 - الأحد 01 يوليو 2007م الموافق 15 جمادى الآخرة 1428هـ