في أقل من ربع ساعة يصل بك القارب الصغير من المحرق إلى خليج توبلي، ولن تحتاج إلى خبيرٍ أو ناشطٍ بيئي ليدلك على درجة التلوث الخطير في الخليج. فمنذ أن تدخل الخليج من الشرق حتى يصدمك لون الماء الأسود الداكن، الذي لن تراه في أي منطقةٍ أخرى من البحرين شمالا ولاجنوبا... ولا غربا.
الانطباع الأقسى الذي ستعود به من زيارة خليج توبلي هي الرائحة النفّاذة التي تخترق حتى الخياشيم، وتبقى في ذاكرتك طويلا لتثير التقزّز كلما ذكرت اسم الخليج. هذا مع أن الزيارة كانت عصرا، وإلاّ لو كانت مع اقتراب منتصف الليل، فإن الذكرى ستلازمك إلى القبر!
في الجولة الأخيرة مع «البيئيين» الخميس الماضي، استمعت لسائق القارب الخمسيني، وهو من الوجوه التي تلقاها كل يوم في شوارع البلد، يتكلّم بلغةٍ بسيطةٍ ومباشرة، ولا يجيد لغة اللف والدوران. يقول معلّقا على الاتهامات المتبادلة بين عدد من الوزارات التي تقاذفت الكرة بينها: «الثروة السمكية هي المسئولة عن هذا الوضع، وليست وزارة الصحة، فما دخل الصحة بالبحر؟ ولأن الثروة السمكية تخلّت عن دورها ومسئوليتها أبادر أنا وغيري من البحّارة لدعوتكم إلى المجيء للاطلاع على الواقع بأنفسكم، وكان المفروض أن يصطحب المسئولون في الثروة السمكية الصحافيين بدل أن يجلسوا ويتمتعوا في مكاتبهم وترك الأمور هكذا».
قلت له: ماذا تتوقع من مدير إدارة أن يفعل؟ ألن يخاف على نفسه لو تكلّم؟ ألن (يطيّروه) لو نطق بحرفٍ واحد؟ وهل سيجرؤ على الوقوف في وجه أحد الهوامير؟
لم يجب عن تساؤلاتي، ولكنه أضاف: «منذ تأسست هذه الإدارة ربما في 75 أو 77، والمسئولون فيها لم ينزلوا البحر ولا مرة واحدة، فكيف يعرفون بمشاكل البحر والبيئة»؟ قلت مستغربا: «ولا مرة واحدة»؟ فردّ بسرعة: «ولا مرة واحدة، بل ولم يطرحوا موضوعا عن البحر، ولم ينظموا ندوة، ولم يخرجوا مرة واحدة مع البحّارة في قواربهم ليعرفوا مشكلاتهم».
«الثروة السمكية» إحدى الجهات الرئيسية المتهمة في هذه القضية، بل هي متهمةٌ من قبل عددٍ كبيرٍ من البحّارة والصيادين، من بحّارة المحرق إلى بحّارة سترة والقرى الشمالية، كما اتضح لي منذ بدأت متابعة ملف البيئة والفشوت والأراضي المغمورة التي عُرضت للبيع. وهناك من تحدّث بصراحةٍ عن تواطؤ بعض مسئوليها في عددٍ من التجاوزات، حتى في قضية منح ومنع الرخص والغزل «الإسرائيلي» و«الكراف»، وما يجري من تدمير للبيئة البحرية تحت سمعها وبصرها، من دون أن تتخذ خطوة أو إجراء أو تعلن موقفا من كل هذه الانتهاكات والجرائم البيئية.
وإذا لم يكن بمقدور مسئولي «الثروة السمكية» الوقوف بوجه المتنفذين في قضايا كبرى، فعلى الأقل أن تعلن موقفها للرأي العام لتبرئ ذمتها أمام الناس، وإلاّ ستكون في موضع التهمة بالسكوت على الجرائم البيئية المدمرة، وخصوصا خليج توبلي الذي وصل إلى حافة الاحتضار.
في وسط خليج توبلي، وأنت تشاهد الكتل العائمة من المخلفات العضوية، وتسد أنفك من الروائح الكريهة، تسأل أحد المرافقين البيئيين يائسا: هل من حل؟ فيجتهد قائلا: «الخليج كما ترى منطقة مغلقة، ربما الحل في توسيع الفتحات أسفل الجسرين الصغيرين عند منطقة المعامير، لضمان تدوير الماء». وهو علاجٌ مؤقتٌ ومحدود أشبه بـ «البندول»، فالوضع حتما يتطلب خطة إنقاذ وطنية كبرى، بدءا من إيقاف الردم وغسل الرمال وحقن الخليج بمخلفات المجاري... وهي نتيجةُ تراكمِ سنواتٍ من الإهمال، تكشف فداحة الجرائم المرتكبة بحق البيئة والموائل في هذا البلد المستباح.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1760 - الأحد 01 يوليو 2007م الموافق 15 جمادى الآخرة 1428هـ