رفعت الحكومة البريطانية حال التأهب إلى درجة «قصوى» تحسبا لاستمرار عمليات التفخيخ والتفجير والتهديد التي طالت ثلاث مناطق في أقل من يومين. حوادث التفجير واكتشاف سيارات مفخخة وما رافقها من اتصالات تنذر بوقوع هجمات امتدت من العاصمة (لندن) إلى غلاسكو (عاصمة اسكتلندا) إلى مطار ليفربول في وسط غربي المملكة أسفرت عن سقوط جرحى وزرعت حال الذعر وعطلت المواصلات وأربكت حركة القطارات والأنفاق وأغلقت جزئيا بعض المطارات المحلية والدولية.
هذه الأجواء الملبدة يرجح أن تستمر إلى فترة من الوقت حتى تنقشع الغيوم وتظهر حقيقة التهديدات وحجمها. وبغض النظر عن النتائج السلبية التي ستترتب على هذه الحملة فإن الطرف المسئول عن تخطيطها وتنفيذها حقق بعض الأغراض من تلك الرسائل السياسية التي تعمد توجيهها في لحظة مفارقة وفترة انتقالية. فالهجمة بدأت في اليوم التالي الذي أعلن فيه رئيس الوزراء الجديد غوردون براون تشكيل حكومته. وجاءت الهجمة وكأنها تتقصد الضغط النفسي على رئيس وزراء لم يمضِ 24 ساعة على تحمّل مسئولياته. والغريب في الهجمة أن الطرف الذي نظمها تعمد توقيتها في مرحلة انتقالية يُعتقد أن بريطانيا ستشهد بعدها مجموعة متغيرات في السياسة الخارجية.
براون لا يختلف كثيرا عن رئيس الحكومة السابق طوني بلير ولا يتناقض معه في معظم المحاور الرئيسية. فالتوافق موجود والاستمرارية هي الغالبة، ولكن هذا لا يمنع احتمال وجود تعارضات جزئية في رؤية موقع بريطانيا في العلاقات الدولية وتحديدا تبعيتها الكلية للسياسة الأميركية. براون أكثر استقلالية من بلير ويملك ذاك الحرص على تمييز المواقف البريطانية عن الولايات المتحدة من دون أن يعني ذلك الانفصال عن واشنطن والانقلاب عليها وانتهاج سلوك ضدي في مختلف الحقول والقضايا.
براون كما هو معلن لا يتفق مع بلير في موضوع الحرب على العراق ويرى في المسألة مجرد ورطة لابد من البحث عن مخارجَ لها. وبراون أيضا انتقد بحياء تلك الحرب وضغط مرارا باتجاه الحد من تداعياتها والعمل على ترسيم خطة خروج منها ضمن مهلة زمنية. وهذا الافتراق بين براون وبلير لا يعني أن رئيس الوزراء الجديد يقف في الاتجاه المضاد عن السابق، ولكنه يختلف عنه في فائدة الاستمرار في ورطة كان بالإمكان تجنبها ويمكن التقليل من خسائرها في حال أحسن اختيار توقيت الخروج منها.
هذا التوضيح كان لابد منه لطرح السؤال: من المستفيد من هذه التفجيرات والتفخيخات والهجمات؟ بريطانيا عموما هي المتضرر الأول. وبراون في هذا المعنى وُضِع في زاوية ضيقة لا يستطيع الخروج منها متجاهلا ما حصل وعلى بعد مئات الأمتار من مقره. فهو الآن محرج ومراقب ولا يمكن أن يفكر في هذه اللحظات الصعبة في وضع تصور للتمايز عن واشنطن أو التخطيط لوضع جدول زمني لانسحاب القوات البريطانية أو تجميعها في العراق. فالهجمات أجّلت هذا الاحتمال وربما دفعته إلى التفكير في سياسة مغايرة لا تختلف كثيرا عن استراتيجية سلفه.
المتضرر الثاني الجاليات المسلمة في بريطانيا وخصوصا بعد إعلان الشرطة القبض على شبان آسيويين في منطقتي التفخيخ والتفجير. التهمة إذا أصبحت جاهزة وأصابع التشكيك بولاء المسلمين لبريطانيا توجهت سلبا ضدهم. وهذا يعني أن الجاليات المسلمة ستخضع إلى امتحان قاسٍ واختبار ظالم يشبه ذاك الذي تعرضت له بعد هجمات 7 يوليو/ تموز 2005. ففي تلك الفترة الصعبة عانى المسلمون الظلم وتعرضوا لحملة إعلامية جارحة قادتها الصحف الشعبية الرخيصة والمبتذلة والصفراء بعد تلك التفجيرات التي تعرضت لها قطارات الأنفاق ومحطات النقل وأدت إلى سقوط عشرات الضحايا الأبرياء.
الذكرى الثانية
الآن وقبل أسبوع من الذكرى الثانية لتلك الهجمات الإرهابية تفتح النيران مجددا على بريطانيا والجاليات المسلمة ورئيس حكومة جديد يتميز عن سلفه بسياسة مرنة ومنفتحة نسبيا. فعلا من المستفيد من هجمات أو تهديدات أو تفخيخات في شوارعَ سياحية وسكنية راقية في لندن (بيكاديلي وبارك لين) أو في مطار سكوتلندي (مسقط رأس براون) أو في ليفربول (مدينة سياحية تجارية على المحيط الأطلسي)؟
الإجابة تشجع على التفكير في وجود «مؤامرة». فمن يفعل هذه الهجمات لابد أن يكون من سلالة الأغبياء أو من شبكة مخابرات تنفذ سياسة من الصعب فهم ألغازها وإشاراتها منطقيا. فما حصل لا منطق له ولا معنى لأهدافه المباشرة سوى إيذاء الجاليات المسلمة في بريطانيا وتعطيل إمكانات إعادة النظر في السلوك السياسي للدولة في تعاملاتها الخارجية وتحديدا في العراق وفلسطين و «الشرق الأوسط».
الأمر نفسه حصل قبل سنتين في لندن. فالهجمات وقعت في دائرة يشرف عليها عمدة عاصمة اشتهر بمواقفه المؤيدة للقضايا العربية وحقوق المسلمين. وبلغ التزامه المبدئي بالسياسات الخارجية في «الشرق الأوسط» درجة عالية من الحياد والنزاهة؛ ما عرضه لحملة عنصرية اتهمته بالعداء للسامية و «إسرائيل» وكراهية اليهود. وفجأة تتعرض المدينة لسلسلة تفجيرات عشوائية أطاحت بالكثير من الرموز والنماذج وأحرجت العمدة (رئيس البلدية) وضغطت عليه وحشرته في زاوية ضيقة كما هي حال براون الآن.
توضيح الصورة سياسيا لا يعني ترجيح نظرية «المؤامرة»، ولكن الأمر يحتاج إلى مقدمة عامة حتى يمكن التقاط أو ربط ملامح مسلكيات مؤذية للقضايا العربية والمسلمة في فترة دقيقة وحساسة تحتاج إلى رؤية استراتيجية في التعامل مع القوى الكبرى ودورها السلبي في تقويض حقوق الشعب الفلسطيني وحق دول المنطقة العربية في النمو والسيادة والاستقلال.
تلك الأفعال والهجمات التي حصلت في بريطانيا تعطي نتائجَ عكسية وتقدم إلى القوى المعادية للعرب والمسلمين والجاليات المسلمة مادة خصبة لاستثمارها في تعزيز سياسة التقويض الأميركية. وهذا ما بدأ يظهر منذ اليوم الأول للتفخيخات والتفجيرات والتهديدات. فالشرطة ربطت بين السيارتين في لندن والسيارة التي اقتحمت مطار غلاسكو ثم ربطت الحوادث الثلاثة بتلك الإنذارات والتهديدات التي تلقتها مؤسسات أو مرافق حيوية ومدنية في ليفربول. وأخيرا وهذا هو اللافت في الأمر أن الشرطة قارنت مجموع ما حصل في بريطانيا بتلك الأعمال الإجرامية التي تقع يوميا في بغداد. وفي النهاية أعيد ربط الهجمات كلها بتنظيم مجهول الهوية والعنوان يتخذ من العراق ساحة للانطلاق إلى الخارج. فالدائرة الجهنمية أعادت النقاش الداخلي في بريطانيا إلى المربع صفر.
كل هذه الدائرة تعني في النهاية محاولة للضغط على براون لمنعه من التفكير في اتخاذ قرار يتجه نحو التخطيط لوضع جدول زمني لتجميع القوات البريطانية تمهيدا لسحبها من العراق. فالدائرة الجهنمية أقفلت زواياها وأغلقت المنافذ والفتحات على براون حين وضعته أمام خيار واحد يركز على سؤال وحيد: ما العمل لوقف الهجمات الإرهابية على بريطانيا؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1760 - الأحد 01 يوليو 2007م الموافق 15 جمادى الآخرة 1428هـ