جميع أسر الشهداء وضحايا جرائم التعذيب الوحشية ممن لم تندمل وتضمد جراحهم، وتعاد إليهم قبلها كراماتهم المهدورة كانوا في الأسبوع الماضي على موعد مع تصريحين غرائبيين مثيرين للجدل، التصريح الأول كان للموقرة وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي كممثل للحكومة، في حين أتى التصريح الآخر من قبل «ناشط سياسي» ينطق باسم «تيار أهلي» و«مؤتمر أهلي» ضمن سلالة «الغونغو» السياسية!
الوزيرة دعت كتّاب الأعمدة والصحافيين إلى إبعادها هي ووزارتها عن التجاذبات السياسية على رغم كون القضية التي نحن بصددها قضية حقوقية أولا ناشئة بطابع وسياق سياسي تاريخي ثانيا، لذا من الطبيعي أن يكون تناول القضية مسببا لعدد من «التجاذبات السياسية»، أو لخيوط شد وجذب سياسي بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة الرابعة (الصحافية) والقوى الحقوقية والسياسية من منظمات المجتمع المدني التي تتبنى رفع هذه القضية الوطنية الرئيسة، وتدعو إلى تبني حلول بديلة مطروحة حولها مستقاة من تجارب دولية ناجحة وليس كبعض التجارب الفاشلة التي تروج لها الدولة بأهداف سياسية مكشوفة لم تعد مبطنة.
وبما أن الوزيرة فاطمة البلوشي ممثلة للحكومة وهي جهة سلطة سياسية تنفيذية، ومنصب الوزير أصلا هو منصب سياسي رسمي، ويقع هذا الملف واختصاص النظر في محتوياته ضمن نطاق مسئوليات وزارتها التي تشرف على الجمعيات الأهلية ومختلف منظمات المجتمع المدني التي تتبنى هذا الملف الوطني المنسي أو المؤجل حله في أحسن النوايا والأحوال، فإن الحديث عن عدم إقحامها ووزارتها في تجاذبات سياسية عن شأن سياسي يكون الأقرب إلى إشراف واختصاص وزارتها سياسيا ورسمياَ بشـأنه هو أقرب إلى أن يكون حديثا متمثلا خارج الواقع والطبيعة، ولربما فسر على أنه محاولة للتهرب أو التنصل من المسئولية والرغبة في إغلاق أي باب مفتوح لمزيد من الجدل والنقاش الضروري!
وهو أيضا قد يوحي بالرفض والرغبة في إبعاد العتاب والنقد البناء الذي يوجهه الزملاء في الصحافة المحلية لأداء الوزيرة ووزارتها والحكومة إجمالا في ما يتعلق بهذا الملف رؤية وتفصيلا وبشأن ما يرتبط بالفعاليات الأهلية المنظمة حوله، وهو أمر مستنكر لا يمكن قبوله ولا يمكن أن يطالب أحد أيا كان منصبه، باستثناء جلالة الملك المفدى بحكم الحصانة الدستورية، أن يكون محميا ومحصنا ومبعدا عن آلات وآليات النقد الذي توجهه السلطة الصحافية الرابعة له فيما يتعلق بأدائه في ملف من الملفات يقع ضمن اختصاصاته الإشرافية باعتباره نقدا واجبا وليس ابتزازا سياسيا!
فبعد أن فشلت وأخفقت حجة وذريعة «تسييس» هذه القضية والملف الحقوقي - السياسي أصلا واتهام بعض «الأطراف» التكسب سياسيا وفئويا من طرحه، ظهرت إلينا رسميا دعوى تطالب بإبعاد الوزيرة والوزارة عن «التجاذبات السياسية» عن هذا الملف الإنساني الذي تنهض به جمعيات حقوقية وسياسية عدة وبارزة ذات ثقل شعبي، فهل الجمعيات الحقوقية والسياسية هي حظائر أو مزارع مثلا ليتم تحميل مسئوليتها إلى وزارة البلديات والزراعة لتطالب بإبعادها من «التجاذبات السياسية» عن هذا الموضوع، أم أن طاقة الشحن الاجتماعي والسياسي والحقوقي الضرورية تعتبر ضمن الطاقات الرئيسية التي توفرها الدولة كالكهرباء والماء مثلا وإن مجرد انقطاعها قد يؤدي بوزارة الكهرباء والماء لأن تطالب أيضا بإبعادها من «التجاذبات السياسية» عن هذا الشأن «مجرد افتراض»؟!
فهل تعقل مثل هذه الأحاديث والدعوات الفواحة لإدراكنا برغبة دفينة وحتمية في إغلاق هذا الملف في أسرع وقت ممكن وهروب المسئوليات والاختصاصات المنوطة به من حوله والسعي لتحصين الأداء والذات من النقد البناء الضروري لخلق التواصل والتفاعل الإيجابي بين المواطن والشعب عبر وسائط الصحافة؟!
وحينما تبين وزيرة التنمية الاجتماعية أن «العملية كلها بحاجة إلى نقاش متكامل في الإطار الديمقراطي والتوافق مع القيادة على أطر محددة خاصة بمملكة البحرين» فإن هذا ثابت من الثوابت تتبناه مختلف الأطراف بشأن موضوع مصيري كهذا الملف لا يمكن الاختلاف عليه وعلى ضرورة فتح جبهات حوار مع الأطراف كافة بما فيها الحكومة والدولة بشأنه لكونه يهدف إلى تحقيق الحقيقة والعدالة والإنصاف والمصالحة الوطنية الجامعة ذات الأبعاد الشاملة التي لا يمكن التعامل معها باستثناءات واستئصالات وتصادمات تقلل من شأنها وتحصرها في أضيق نقطة!
أما الحديث عن أطر خاصة بحرينية بشأن ملف وقضية إنسانية كهذه فلا أراه مناسبا إذا ما شمل مجال حقوق الإنسان وأوحى بالتالي بوجود فوارق نسبية بين إنسان بحريني وآخر مغربي على سبيل المثال على رغم كون الجانب الإنساني العام هو في محل القلب والدورة الدموية لهذا الملف الحي الذي ينبغي أن يكون فيه فوق كل تقديرات واعتبارات وخصوصيات وأطر اجتماعية وسياسية إلا إذا ما اعتبرت هذه الأطر الخاصة التي ذكرتها الوزيرة تعنى بأغراض التنظيم والتسيير لا أكثر ولا أقل، وهي بلا شك ستكون خطوط رئيسية محددة لعناصر الجذب والتجاذب والاجتذاب السياسي الطبيعية والمتوقعة الذي فيما يبدو لا تريدها الوزيرة ولا ترغب بتوريطاتها!
ونرجو ألا تكون البلوشي قد حجمت ملف «الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية» إلى مجرد دعوة الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان لوضع برامج ومشروعات لتقديم مساعدات اجتماعية تتضمن دعما وتأهيلا لضحايا التعذيب تنل دعما لازما من قبل وزارة التنمية، وذلك من دون الانتباه إلى خطوات أسبق معنية بها الدولة ككل، ومنها المصارحة بشأن تقصي الحقائق وتداولها والاعتذار ورد الاعتبار اللائق بهيبة دولة تتحمل مسئولياتها الأخلاقية والقيمية إلى أسر الضحايا والشهداء الذين نالهم ما نالهم من العذاب والإجرام المقنن جورا وبهتانا!
إن ما ذكرته البلوشي من تأهيل أو حتى تعويض في أحسن الأحوال ودعم قد يفسر على أنه إهانة أكبر من إهانة التعذيب والانتهاكات ذاتها طالما لم تسبقه مصارحة وإنصافا فاعتذارا ومصالحة وطنية من أعلى المستويات، تشجب جرائم «أمن الدولة»، وتعد بعدم تكرارها مستقبلا في الوقت الذي يحظى به أمثال هؤلاء الضحايا والشهداء من تكريم وتمجيد في الدول الأخرى التي تحترم مسئولياتها القانونية والأخلاقية تجاه مواطنيها ورعاياها بصفتهم شهودا للضمير الإنساني ولمراحل تاريخية مفصلية عصيبة مرت بها هذه الدول وقادتها نحو تحول أفضل، وإن مجرد قبض أثمان التأهيل والتعويض من دون أن يترافق معها الجبر للكرامة المكسورة والتطمين لأصحابها يكون أشبه بالمقايضة والمساومة السعرية التي تضع ثمنا للخضوع للتعذيب والمعاناة، ولا يمكن أن تكون أبدا إنصافا ومصالحة وطنية راقية!
أما بخصوص النقطة المؤسفة والمسببة للإحباط من تصريح وزيرة التنمية الاجتماعية فهي تلك المبررة لخروجها العاجل من «قاعة فلسطين» بجمعية «وعد» عقب إلقائها الكلمة الافتتاحية لكون وجودها أساسا جاء نتيجة لـ «تلبية لدعوة من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان لإلقاء كلمة افتتاحية للورشة، وهي تلبية لدعوة جمعية من الجمعيات المسجلة في الوزارة، ولأن الموضوع دعوة لافتتاحية، ليس من المتوقع الجلوس طوال اليوم في الورشة»!
ومن قال غير ذلك، لم يكن مطلوبا أبدا من الوزيرة أن تظل حبيسة جدران قاعة «فلسطين» في جمعية «وعد»، وحبيسة أنظار الشهداء في صورهم المعلقة على جدران القاعة حد الإحاطة، أو أن تكون خاضعة لأجندة الورشة المتعددة، و لكن ما كنا بصدده هو مدى جدية الوزيرة والحكومة والدولة في مراعاة الجانب الإنساني الحقوقي قبل الطابع والسياق السياسي التاريخي لهذا الملف، وعن مدى اهتمامها بالاستماع إلى شهادات الضحايا المؤلمة ومعاناة أهاليهم الذين تكلموا بعدها بدقائق، كما أننا مهتمون بإقامة حوار بناء وإيجابي مع الأطراف كافة يحترم معاناة وتضحيات الضحايا وأسرهم في سبيل الوطن، ونحن في ذلك نخاطب من منظور إنساني أولي فاطمة البلوشي الأم والأخت والابنة قبل الوزيرة عن شعورها الإنساني فيما لو كان لها نصيب ولو طفيفا مما تعانيه هذه الأسر أكان عاهات جسدية ونفسية أم مطاردة من مصادر العمل والرزق أو حرمان من شرف الجنسية والمواطنة البحرينية في زمن ابتذالها بفعل لوثة التجنيس (لاقدر الله)!
هل كان الحضور إلى هذه الورشة يعني فقط من أجل تطييب الخواطر بروتوكوليا، وتسجيل إتيكيت الحضور تلبية للدعوة، وأخذ الصور لنشرها صحافيا ولإلقاء كلمة بلاغية فقط بهذا الالتزام الوظيفي الصارم، أم هو أساساَ نتاج إيمان إنساني أسبق بأهمية هذه القضية المؤجلة وضرورة حلها بالتوافق والتصالح الوطني؟!
وعلى رغم ذلك وأيا تكن النوايا والأسباب فنحن نفترض دوما حسن النية وبياض القلب!
أما بشأن تصريح طويل العمر «الناشط السياسي» و «الناطق الرسمي» باسم «التيار» لصحف محلية عن فعاليات «اللجنة الوطنية لضحايا الإرهاب في التسعينات» وعن إقامة «مؤتمر أهلي لضحايا التسعينات» يضمن أن ينال بعض ضحايا التسعينات «المهمشين» - على حد وصف «الناشط السياسي» - حقوقهم واعتباراتهم المفقودة، فهنا عتاب وتساؤل عن تقصير وسائل الإعلام المحلية في تغطية فعاليات هذا «الحدث الضخم» بشكل لائق يتم من خلالها إعطاء وتوفير الصور الفوتوغرافية والتزويد بجميع أسماء المشاركين وأسماء كبار الحضور ومداخلاتهم عسى أن يفوتوا الفرصة على «المتربصين» بهذا التيار كيلا يصنفوا هذه الفعاليات ضمن الــ «Cyber space» أو المساحات المتخيلة والافتراضية وربما يفلحوا في التمييز بين «مؤتمر أهلي» وبين «بسطة بحرية»!
أخونا «الناشط السياسي» أطلق اتهاماته وهو الذي لم يحضر ورشة الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية، ولم يطلع على اتفاق الأطراف المشاركة في الدعوة لهذه المبادرة الوطنية على ضرورة تعويض أسر الضحايا والشهداء الذين سقطوا في الفترات الزمنية السابقة وليس فقط فترة التسعينات كما قد يحصر بذلك أخونا «الناشط السياسي»، لذا لم يوجد أبدا من يدعو إلى تهميش واستثناء ضحايا أعمال الشغب والأعمال التخريبية من المواطنين والمقيمين الأبرياء من الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية عدا خيال وتخييل «الناشط السياسي»!
وإن كان جميع المشاركين في ورشة الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية على استعداد لمداواة جميع الجروح في مختلف الحقب الزمنية لمختلف الضحايا، فملفاتهم وأجندتهم وقضيتهم قضية الوطن والشعب بلا شك أكبر حجما نوعيا وكميا من ما لدى «الناشط السياسي» و«تياره»، وأكثر شمولا وتعددا بحكم الواقع والمنطق!
هل سيكون «الناشط السياسي» أيضا على استعداد للدفاع عن ضحايا التعذيب الجائر ورفع مطالب أسر الشهداء حتى لا تكون عدالتنا انتحالية وتنكرية وحقيقتنا استئصالية وانفصالية؟!
نتمنى ذلك وليستشر «الناشط السياسي» والناطق باسم «التيار» فضيلة الشيخ مفتي «التيار» عن الآية القرآنية «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» (المائدة:8).
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1760 - الأحد 01 يوليو 2007م الموافق 15 جمادى الآخرة 1428هـ