في البلاد القديم، هناك عينان تحملان اسم «قصاري»، الأولى خارج المنطقة وحوّلت إلى مسبح، وكان اسمها الأصلي عين «الدُوبِيّة»، إذ كان يعمل فيها العمال الهنود في تنظيف الملابس قبل انتشار المغاسل الآلية. أما «قصاري» الأخرى (الأصلية) فهي بالداخل، قرب موقع سوق الاثنين حاليا، وتزيد مساحتها على نصف ملعب كرة قدم، وتقوم مكانها اليوم حديقة البلدية.
في الخمسينات كانت هذه العين تموّل المزارع والمنازل بالماء، وكان الشارع الرئيسي الذي يمتد من الزنج إلى الخميس، محفوفا بالأشجار الكثيفة من الجانبين. وهناك صورٌ بديعة جدا للعين التي كانت تلفت أنظار الزوار الأجانب، وعندما زارت بعثة مجلة «العربي» البحرين بداية صدورها (نهاية الخمسينات)، نشرت صورا لهذه العين الجميلة وما جاورها.
استمر الوضع هكذا كما تعيه الذاكرة... حتى منتصف السبعينات، إذ تمّ تركيب مضخات لنزف المياه من العين، وتصريفها على البساتين المجاورة عبر ما تبقى من جداول و«سِيبان»، واستمر الضخ 24 ساعة لمدة أسبوعين حتى فسد الزرع. وحتى الآن، لم أهتدي لتفسير لهذه الحركة التي بدت استنزافا عبثيا وغير مبرّر للمياه. وسأكون ممنونا لو يصحّح لي ذلك أحدٌ من المسئولين أو الأهالي لإلقاء الضوء على هذه القضية اللغز، خصوصا أنها طالت آبارا وعيونا و«كواكب» أخرى في تلك الفترة، أعقبها عملية «تصحير» تدريجية للبساتين والحقول المجاورة، بدت مبرمجة عن سابق عمد وإصرار. وما حدث لاحقا، هو أن العين جفّت، وانسدت منافذ تصريف المياه فظلّت المياه راكدة كالبحيرة المغلقة، وبدأ تدريجيا انتشار الطحالب وإلقاء الأوساخ وجذوع النخل فيها، فأصبحت مرعى للحشرات والقوارض والبعوض، وسرعان ما أصبح ردم العين مطلبا عاما يلحّ عليه أصحاب المنازل المجاورة.
شريط الذكريات هذا، مرّ على ذاكرتي وأنا في قاربٍ وسط خليج توبلي، يوم الخميس الماضي، في جولة بحرية نظمها «البيئيون» بصحبة بعض الزملاء.
انطلقت الجولة من المحرق، مرورا بميناء سلمان، مروقا تحت أسفل جسر سترة، وهنا تبدأ مشاهدة المأساة، فلا أتصوّر وجود بحرٍ أو بحيرةٍ أو خليجٍ في العالم أشدّ تلوثا من خليج توبلي.
إذا وقفت في وسط الخليج، تشعر برهبة المنظر وجماله الأخّاذ، مسطحٌ مائيٌ كبيرٌ ينبسط أمامك على مدّ البصر، في شكل دائرة، طرفها الأول جسر سترة وطرفها الآخر ينتهي جنوبا عند أقدام جزيرة النبيه صالح. منظرٌ لو شاهده الشعراء الرومانطيقيون فربما أبدعوا أجمل قصائد يمكن أن تقال في الطبيعة والسماء، ولكن لو نزلوا بأبصارهم إلى الماء لشعروا بالرغبة في التقيؤ والغثيان.
خليج توبلي تبلغ مساحته 15 كم مربع، أي ما يضاهي مساحة جزيرة سترة، خامس جزر الأرخبيل مساحة، بعد جزر البحرين (الأم) وحوار والمحرق وأم النعسان على التوالي.
هذا الخليج بمساحته الكبيرة نسبيا، ومنذ لحظة دخوله بالقارب من أسفل جسر سترة، ستلاحظ أن مياهه عكرة وتغلبها الدكنة والسواد. وفي الجولات البحرية عادة ما يغرف السوّاح بأيديهم من ماء البحر... إلاّ في خليج توبلي، فالركاب كانوا يتحاشون أن يصيبهم حتى رذاذ الماء. وكلما مضيتَ داخل الخليج زاد انبعاث الروائح النتنة، وبدأت تطفو أمامك كتلٌ سوداء من الأوساخ والمخلّفات العضوية. منظرٌ لا يستهوي أي كاتبٍ الاستفاضة في تفاصيله لئلا تزكم أنوف القراء... لكنها أبلغُ مؤشراتٍ تفضح سياسة الحرب المعلنة على البيئة في هذا الوطن المستباح.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1759 - السبت 30 يونيو 2007م الموافق 14 جمادى الآخرة 1428هـ