الهجمات المتكررة التي شنتها حكومة إيهود أولمرت على قطاع غزة والضفة الغربية بعد حرب الاقتتال الفلسطينية وإعلان حكومة طوارئ وعقد قمة رباعية في شرم الشيخ تؤكد عمليا أن لا فرق بين «فتح» و»حماس» في السياسة العامة لتل أبيب. فالحكومة الإسرائيلية تتعامل مع الطرفين الفلسطينيين المتنازعين على سوية واحدة ومن دون تمييز بين «معتدل» و»متطرّف».
المعركة ليست أيديولوجية كما يدّعي الرئيس الأميركي جورج بوش وإنما هي تعتمد منهج التقويض للسلطة الفلسطينية بغض النظر عن الغطاء الأيديولوجي الذي ترفع شعاراته هذه الجهة أو تلك.
المنهج التقويضي هو سياسة أميركية بدأت واشنطن في تطبيق برنامجها منذ حصول هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 بناء على استراتيجية عامة وضع بنودها وتوصياتها تيار «المحافظين الجدد». والمنهج الذي اعتمد نظرية «الحروب الدائمة» وتكتيك «الفوضى البناءة» بنى هجومه العام على قراءة لا تحتاج إلى ذرائع تستخدم إطارا لتبرير القرارات السياسية. وما حصل في أفغانستان في نهاية 2001، وفلسطين في 2002، والعراق في مطلع 2003، وغزة في 2006، ولبنان في صيف 2006 كلّها إشارات تؤكد على أن تلك الاستراتيجية الأميركية الهجومية لا تحتاج إلى مواد اتهامية أو أدلة دامغة لتبرير الاعتداءات. يكفي أن تختلق واشنطن الذرائع وتوجّه الاتهامات من دون تحقيق أو أدلة ثابتة حتى تبدأ هجمات التقويض للبنى التحتية والأبنية السكانية.
في أفغانستان لم تنتظر واشنطن التحقيقات الدولية لمعرفة صحة الاتهامات وتحديد القوى التي تقف وراء الهجمات، فأعلنت الحرب قبل أن تتوصل إلى تأكيد الفرضيات التي طالبت لندن بتوضيحها وتثبيتها. واضطر رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير آنذاك إلى السكوت والانجرار وراء واشنطن في حربها بذريعة أن الوقت لا يسمح بالانتظار. فالحرب أولا ثم تبدأ عمليات البحث لتأكيد التهمة وتوثيقها لاحقا.
في فلسطين لم تنتظر تل أبيب لمعرفة صحة التوجهات العربية. حتى أن حكومة ارئيل شارون لم تأخذ الوقت المطلوب لقراءة مبادرة السلم العربية التي صدرت عن قمة بيروت فبادرت فورا إلى إعلان الحرب على سلطة ياسر عرفات بذريعة أن الإرهاب ينتمي إلى جنس واحد ويحمل هوية عربية - إسلامية مشتركة. وبدأ شارون فورا حرب التقويض فأعاد احتلال أجزاء واسعة من غزة والضفة وهدم المؤسسات وجرف الأبنية والمطار وبدأ ببناء جدار الفصل العنصري واقتحم المدن والمخيمات ضد سلطة وقعت اتفاقات ثنائية بإشراف دولي ومراقبة أميركية تعترف بوضوح بوجود دولة «إسرائيل» وترفض العنف وتعتمد الدبلوماسية.
في العراق تكرر الأمر نفسه. فالنظام المعزول والمحاصر آنذاك أعلن استعداده لتلبية رغبات الولايات المتحدة وتنفيذ ما تطلبه واشنطن من شروط واتفاقات. وفتح النظام أبواب الدولة وشرع النوافذ لدخول بعثات التقصي التي اتهمت بغداد بتصنيع أسلحة الدمار الشامل. ولم يتردد النظام في تقديم التسهيلات لكل لجان التفتيش الدولية التي أرسلتها الأمم المتحدة للتأكد من صحة المعلومات المتسربة عن وجود معامل ومصانع تحت الأرض. كذلك أرسل النظام تقريره الشامل للأمم المتحدة يشرح فيه كل التفصيلات (12 ألف ورقة) من البداية إلى النهاية. ولكن القرار هو القرار ولم تشفع كل التنازلات والضمانات من منع وقوع الحرب على رغم تأكيد بعثات التقصي والتفتيش عدم عثورها على دليل يشير إلى وجود خطة سرية لمشروع بناء أسلحة للدمار الشامل. فالولايات المتحدة أعلنت الحرب استنادا إلى معلومات كاذبة وإشاعات أطلقتها المعارضة ولم تنتظر انتهاء بعثات التفتيش من أعمالها فاحتلت العراق قبل صدور التقرير.
فلسطين دائما
في فلسطين أعلنت واشنطن الحصار الدولي والمقاطعة المالية والاقتصادية الشاملة بدعم من دول الاتحاد الأوروبي لمجرد فوز «حماس» بالغالبية النيابية وبعد تشكيلها حكومة محلية برئاستها. وعلى رغم أن الانتخابات كانت شريفة ونزيهة وجرت بإشراف قوى ومنظمات حيادية قررت تل أبيب بدعم أميركي - أوروبي معاقبة الشعب الفلسطيني على خياراته السياسية من دون تمييز بين «معتدل» و»متطرّف». وخلال فترة الحصار والعقاب الجماعي استغلت حكومة أولمرت خطف الجندي الإسرائيلي؛ لتستكمل حرب التقويض ضد ما تبقى من سلطة الراحل عرفات فأخذت بقصف البنى التحتية وهدم المؤسسات وهدر دماء الأبرياء واعتقال النواب والوزراء وجرجرتهم إلى محاكمات وهمية في تل أبيب.
بعد أقل من 20 يوما على إعلان الحرب على غزة وحكومة «حماس» بدأت «إسرائيل» بشن هجمات تقويضية على لبنان بذريعة أسر حزب الله جنديين من الحدود الدولية. وشكلت حرب التقويض التي قررتها حكومة أولمرت بدعم وتوجيه مباشر من واشنطن إشارة واضحة إلى وجود خطة مبرمجة تقضي بتحطيم لبنان دولة ومقاومة ومن دون تمييز بين «معتدل» و»متطرّف». فالحكومة الإسرائيلية حمّلت حكومة لبنان المسئولية وبدأت في ضوء التهمة الملفقة في تطبيق سياسة هوجاء لم تميز بين المدني والعسكري وبين الدولة والمقاومة. الحرب على لبنان كانت شاملة واستهدفت شطب الدولة من الخريطة وزعزعة الاستقرار وتفكيك العلاقات الأهلية وضرب المشروع العربي وهوية الكيان العربية، وذلك تحت ذريعة ملاحقة خلايا حزب الله وشبكات صواريخه.
في أقل من ست سنوات حطمت الولايات المتحدة سلطات أربع دول عربية ومسلمة من دون اكتراث لتداعيات الحروب ونتائجها السلبية على البشر والحجر. فالقصد كان الانتقام والثأر وزرع الفوضى الهدّامة وفتح الطرقات والمعابر أمام هيئات «إرهابية» لا هوية لها ولا عنوان. وحتى الآن لاتزال الدول الأربع تعاني من آثار تلك الحروب التقويضية. ففي أفغانستان لم تتوقف الحرب ولاتزال طائرات الحلف الأطلسي وقوات التحالف تدك القرى والمدن والأحياء والمناطق بالصواريخ وتقتل الأبرياء إلى درجة أن رئيس الدولة «العميل» حميد قرضاي أعلن تبرمه من سياسة الإفراط في استخدام القوة ضد الناس. وفي العراق لاتزال الحرب قائمة من دون توقف وكل يوم يتساقط المئات وتدمر المساجد والحسينيات والمآتم والمراقد ويقتل الناس في بيوتهم وقراهم ومدنهم ويهجر من تبقى منهم إلى مناطق متجانسة طائفيا ومذهبيا. وفي لبنان لاتزال الحرب جارية ضد بقايا دولة في الشمال وبيروت والجنوب ومن دون تمييز بين «معتدل» و»متطرّف». والبلد الصغير لايزال يعاني من تداعيات حرب التقويض. فالقصد من وراء العدوان في الصيف الماضي خلخلة البلد وزعزعة استقراره وتفكيك علاقاته الأهلية وشطب دولة لبنان من الخريطة وتوزيعها على مراكز قوى تتجاذبها الطوائف والمذاهب والمخيمات في مناطق مختلفة.
أخيرا جاء دور فلسطين وبقايا سلطة تخلخلت على خطوات متتابعة بدأت بعد قمة بيروت في العام 2002 وحصار عرفات في مقره وإبعاده ورحيله عن الدنيا وانتهت الآن بانقسام السلطة وتبعثرها وتوزعها على حكومتين تتهاوشان وتتراشقان بالاتهامات تحت سقف الاحتلال الذي يرى أن الفرصة سانحة للانتقام من «فتح» و»حماس» من دون تمييز بين «معتدل» و»متطرّف».
الحرب الجارية الآن على غزة والضفة في وقت واحد ليست أيديولوجية كما يدّعي بوش في خطاباته، وإنما هي تستهدف الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته وتقويض كل ما أنتجه من مكتسبات خلال فترة نضال امتدّت أكثر من أربعة عقود.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1759 - السبت 30 يونيو 2007م الموافق 14 جمادى الآخرة 1428هـ