في المشهد الفلسطيني ليس هناك من حلّ سياسي واقعي إزاء الانقسام الحادّ أمام حكومتين لا تعترف إحداهما بالأخرى، وخصوصا وسط التظاهرة العربية الدولية ضد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة حركة حماس والترحيب والتهليل لحكومة الطوارئ التي خططت لها الولايات المتحدة الأميركية وشجعتها «إسرائيل» وعملت لها أكثر من دولة عربية، ذلك أن وجود حماس في داخل الحكومة كان مرفوضا من الجميع الذين يريدون حكومة تعترف بـ «إسرائيل» من دون قيد أو شرط، وحتى من دون أن تحدّد حدودها الدولية أو تعترف بحدود الدولة الفلسطينية، التي تحدّث عنها الرئيس الأميركي، ومن دون أن توافق على إزالة المستوطنات والجدار الفاصل كما أنها ترفض حقّ العودة وعروبة القدس.
لقد كان المطلوب، أميركيا وإسرائيليا وعربيا، الاعتراف بالدولة العبرية كأمر واقع لابد للمنطقة كلها من احترامه، ولا بد للفلسطينيين من الخضوع له والاستسلام لشروط «إسرائيل» ومطالبها، ولاسيما أن اللهاث العربي خلفها للقبول بالمبادرة المرفوضة من قِبَلها عند إقرارها، لا يزال يشجّع «إسرائيل» على احتقار الواقع السياسي العربي، لأنه في موقع الضعف وهي في موقع القوة، لأن أميركا المهيمنة على أكثر المسئولين العرب تدعم الكيان الصهيوني في شكل مطلق وتمنع أي قرار لمجلس الأمن لإدانتها، وتدفع بدول الاعتدال العربي - بحسب تسمية وزيرة خارجيتها - إلى إيجاد علاقات اقتصادية تختزن في داخلها حظوظ العلاقات السياسية المنتظرة.
وإذا كانت أميركا قد تحدثت عن الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية، فإنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام بطريقة واقعية لتحقيقها، بل إنها وضعت الحواجز الأمنية التي تحول دون ذلك عندما اعتبرت الفصائل الفلسطينية المدافعة عن التحرير والاستقلال، منظمات إرهابية، واشترطت على الشعب الفلسطيني أن يمتنع عن المقاومة وأن يلقي السلاح من دون أن تشترط على «إسرائيل» الامتناع عن تدمير البنية التحتية للفلسطينيين من خلال اجتياحاتها الوحشية.
وهكذا ضغطت أميركا على اللجنة الرباعية الدولية لكي تتبنى الشروط الأميركية والإسرائيلية حيال الفلسطينيين، ما أدّى إلى جمود المفاوضات وتحوّل مشروع الدولة الفلسطينية إلى مشروع عقيم مشلول لا يملك أية واقعية سياسية.
وهكذا لاحظنا أن الغرب من جهة، وأكثر العرب من جهة أخرى، حاصروا حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا، ثم تحركوا لمحاصرة حكومة الوحدة الوطنية التي دخلها بعض أعضاء هذه الحركة على أساس اتفاق مكة الذي لم ينظر إليه الأميركيون والإسرائيليون بإيجابية، لأن المطلوب أن يبقى الانقسام الفلسطيني الذي يريدونه دمويا يقتل الأخ فيه أخاه، ويدمر الحياة العامة ويؤدي إلى الفوضى السياسية والأمنية في خطة خبيثة شارك فيها بعض المسئولين الفلسطينيين الذين يرتبطون ارتباطا عضويا بالإدارة الأميركية والإسرائيلية، ويتحركون مع اللجنة الرباعية العربية لإيجاد المناخ الذي يسقط الأوضاع في غزة لتنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه من إقالة الحكومة الوطنية واستبدالها بحكومة طوارئ، الأمر الذي قوبِل بالترحاب الغربي والعربي والإسرائيلي، في حديث عن الشرعية القانونية لرئيس السلطة الفلسطينية، وانطلقت القرارات الدولية والعربية في رفع الحصار الاقتصادي عن حكومة الطوارئ تأييدا لعزل حركة حماس التي اتهمت بارتكاب جرائم ضد شعبها من إجراء تحقيقات قانونية أو ميدانية تؤكّد ذلك.
إن هذا الحماس الأميركي والأوروبي والعربي والإسرائيلي للحكومة الجديدة ولرئيس السلطة يثير الكثير من الشك بشان الخلفيات الكامنة وراء الحوادث كلها بفعل التطورات المؤلمة التي أدّت إلى هذا الواقع.
وإننا لا نجد في قرارات الجامعة العربية أيّ حلّ للمشكلة، وستُتْرَك الخطة الإسرائيلية للّعب على هذا الوضع الانقسامي إمعانا في تضييق الحصار على الفلسطينيين في غزة ثأرا للسلطة الوطنية وفي إرباك الحالة الداخلية في الضفة الغربية التي قد تؤدي إلى فتنة معقّدة ربما لا تصل إلى مستوى حوادث غزة، ولكنها تقترب منها... ولا ندري ماذا حصل في اجتماع أولمرت مع بوش في خلفيات الحديث عن التطورات الفلسطينية وما هي الخطة التي يضعانها لاستكمال تحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية غير التوسعية الساعية إلى تجميد مشروع الدولة الفلسطينية وفي قضية ما يسمى السلام. فأميركا لا يمكن أن تضغط على «إسرائيل» لمصلحة الشعب الفلسطيني، لأن خططها الشيطانية لا تحمل أيّ خيرٍ لأي شعب غير الشعب اليهودي ولا تتحرك في أي موقع إلا لحساب مصالحها ومصالحه الاستراتيجية.
وعلى الشعب الفلسطيني ألاّ ينخدع بحكومة طوارئ وبحالة طوارئ خاضعة للخطة الأميركية والإسرائيلية وللّعبة الأوروبية العربية، لأنهم لن يحصلوا على أية نتيجة حاسمة لمستقبلهم الكبير، وعليهم أن يبحثوا عن العناصر المخلصة التي يمكن أن تجنّب الواقع كل الويلات التي مرّ بها الشعب كله، وكل المآسي التي لايزال يعيشها الأيتام والفقراء والمحرومون في هذا الشعب.
إن علينا أن نفتّش عن تجربة جديدة لا ارتباط لها بالواقع الدولي والإسرائيلي، ولا خضوع لها للذاتيات الفئوية والحزبية، وأن تبقى المقاومة التي لا بد من أن توحّد فصائلها في مواجهة العدو من أجل التحرير.
أما في المشهد الأميركي، فإن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط أظهرت فشلها الواحدة تلو الأخرى، وقد مارست واشنطن في السنوات الماضية أسوأ سياساتها في المنطقة، ولذلك فإنها تعيش أزمة كبيرة، وذلك من خلال الوضع المتردّي في الشرق الأوسط الذي بدأ يترك تأثيره على سياسة أميركا الداخلية، فيما هي لاتزال تصرّ على إبقاء خطوط تحركها السلبي على دول المنطقة. ذلك أنّ أميركا في الوقت الذي تضغط على إيران في ملفها النووي السلمي تمارس أكثر من حركة سلبية ضد سورية، كما تعمل على إبقاء الأزمة اللبنانية تراوح مكانها أو تزيدها تعقيدا من خلال أكثر من مندوب أميركي يزور لبنان، إضافة إلى سفيرها الذي يتحرك لإثارة أكثر من مشكلة في اتصالاته ببعض الأفرقاء من السياسيين اللبنانيين الذين ينفتحون على السياسة الأميركية، وفي السياق نفسه يندرج حديث بعض مسئولي الاستخبارات التركية السابقين من أن واشنطن طلبت من رئاسة الأركان العامة للجيش التركي القيام بانقلاب عسكري لإطاحة حكومة رجب أردوغان، في أثناء فترة التحضير للانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي تتحدث أميركا عن الديمقراطية في المنطقة والتي لا تتحرك فيها إلا بما يحقق مصالحها ويفسح في المجال لنفوذها الاستكباري.
وفي المشهد العراقي، تعمل القوات الأميركية المحتلة لتسليح بعض القبائل من أجل إيجاد حالٍ قلقة تطل على اهتزاز أمني واسع، الأمر الذي يؤسس لحال ميليشياوية تخلق فتنة مسلحة بين المذاهب... هذا إلى جانب عمليات الهجوم والاجتياح التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني في الجنوب بحجة فرض الأمن، ما يؤدي إلى قتل المدنين، ولاسيما من النساء والأطفال والشيوخ.
إننا لانزال نجدّد دعوتنا لحركة تحريرية في مواجهة الاحتلال لإخراجه من البلاد، ولاسيما أننا نستمع من بعض قادة الحرب في العراق أن الجيش الأميركي يخطط للبقاء عشر سنين على الأقل، الأمر الذي يعطل أية حركة للنموّ وللتقدم وللحرية للشعب العراقي، الذي لابد له من الأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية.
أما في لبنان، فإن المشكلة هي أنه لا يملك وضعا سياسيا في السلطة وفي الواقع السياسي يفكر في استقرار الشعب اللبناني على صعيد الأمن والاقتصاد والسياسة، لأن هؤلاء يفكرون في أن يشبعوا من المال والسلطة، ولا مشكلة عندهم في أن يبقى الشعب جائعا، فهم يريدون إشغاله عن مشاكله الحقيقية بالأزمات الخانقة وإشباعه بالعصبيات لحساب هذا الحزب أو ذاك، أو لهذا الزعيم أو ذاك، أو هذه الجهة أو تلك، ويريدون له أن ينغلق على نفسه وينفتح على الطائفيات والمذهبيات، في الوقت الذي لايزال الوطن يعيش الاهتزاز الأمني في أكثر من موقع.
إن البعض يعمل على أساس الوقت الضائع ليصل البلد إلى الاستحقاق الرئاسي الذي قد يواجه فيه الجميع الفراغ الدستوري أو التعدد الحكومي في نتائج كارثية يختلط فيها الحابل بالنابل.
إن الشعب مدعوٌ إلى أن يواجه مشكلاته بطريقة واقعية من أجل المستقبل الذي يعمل الكثيرون على تهميشه وجعله مثخنا بالجراح.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1757 - الخميس 28 يونيو 2007م الموافق 12 جمادى الآخرة 1428هـ