طبعا اليأس من الإصلاح في الشارع العربي يمتد من أكبر بلد عربي (مصر) حتى أصغرها (البحرين) وهذا يضع القوى المؤمنة بالإصلاح خصوصا في صفوف المعارضة والنخب المخلصة في موضع مزح، ما بين مطرقة النظام الاستبدادي والتسلطي والجماهير الساخطة وإفرازاتها من الحركات الاحتجاجية في الشارع والتي وإن بدأت سلمية إلا أنها تتحول إلى عنفية مع تصاعد الأزمة، كما أنه يجعل دعاة الإصلاح والديمقراطية المتدرجة، فئة معزولة في منابر عاجية بعيدة عن التأثير في مسار التطور.
يجادل البعض أن بعض البلدان العربية قد شهد شيئا من الإصلاح والتحول الديمقراطي، لكن النتائج جاءت عكسية. ففي المجال الاقتصادي جرت عملية ما يعرف بالإصلاح الاقتصادي، واشتملت على عمليات الخصخصة والتكيف الهيكلي وتقليص دور الدولة وتحرير الاقتصاد، لصالح القطاع الخاص. وعلى رغم التحسن في الأداء الاقتصادي، فإن ذلك قد تم على حساب فئات واسعة من الشعب تم إفقارها، ولصالح فئة محدودة، إما من صلب النظام أو شرعية لهم، ولم تؤد إلى تحسين أوضاع الغالبية التي تردت، كما أن بعض العلل مثل الفساد والمحسوبية، وإهدار الثروات الوطنية والبقية الاقتصادية والمديونية فقد تفاقمت، وأضحى الاقتصاد والوطن أكثر تبعية للغرب.
وفي المجال السياسي، فإن السماح بالتعددية السياسية، وقيام الأحزاب، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية، لم يؤد في غالبية البلدان إلى تغيير حقيقي في البنية السياسية وتعددية حقيقية أو تبادل للسلطة، بل استمر الحاكم والحزب الحاكم في السلطة، فيما باقي الأحزاب والقوى السياسية والتي يطلق عليها أحيانا المعارضة، موجودة ضمن هامش محدود ولاستكمال شكلي في «النظام الديمقراطي» والملاحظ أنه حيث سمح بهامش للعمل السياسي وللانتخابات بحرية محدودة، فقد فازت قوى الإسلام السياسي من بين قوى المعارضة كما حدث في مصر واليمن والكويت والبحرين والأردن أو القوى القبلية كما في موريتانيا واليمن، وفي حال أراضي السلطة الفسلطينية المحتلة، إذ أجريت انتخابات حرة حقيقية فقد فازت حماس الإسلامية على حساب فتح السلطة، فيما تهمشت القوى الديمقراطية أكثر وأكثر.
هنا أود التأكيد أنني لست ضد نتائج الاختيار الشعبي لقوى الإسلام السياسي ولكن هذه النتائج تكشف عن هشاشة المجتمع المدني، وضعف البنى المدنية الأهلية من أحزاب ونقابات وجمعيات وروابط وغيرها، لصالح البنى التقليدية الدينية والقبلية والعشائرية والجهوية. وهذا ناتج من تعود الدولة على مصادرة الفضاء العام للمجتمع، إذ نجحت في تقزيم المؤسسات المدنية لكنها لم تستطع مصادرة الفضاء الديني المتحصن في المساجد والمدارس الدينية وغيرها.
الملاحظة الثانية هي أن النزاعات الأهلية والتي يتخذ بعضها حربا أهلية أو نزاعات مسلحة أو عمليات إرهابية كما في العراق والسودان وفلسطين ولبنان قد أضرت كثيرا بالعملية الديمقراطية وحرفت مسيرة التحول الديمقراطي نحو اصطفافات واستطالات الأطراف المتصارعة بعيدا عن التعددية السياسية الإيجابية. وحتى في بلدان أخرى مثل مصر والجزائر واليمن والبحرين والكويت فقد اضعفت القوى الوطنية الديمقراطية، وبدا واضحا صعود قوى فرعية متواجهة أحيانا مثل الإخوان المسلمين مقابل الأقباط في مصر والعرب في مواجهة الأمازيغ في الجزائر، والقوى الإسلامية المذهبية في البحرين والكويت، والقوى القبلية والإسلام السياسي في اليمن.
إذا فالتعددية الحزبية والانتخابات قد تؤدي إلى تفاقم الحياة السياسية الديمقراطية السليمة إذا لم تتم في بيئة ديمقراطية سليمة، وإذا لم يتم تهيئة المجتمع لممارسة الديمقراطية والاختيار السليم، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية، وتوفير حياة لائقة لعموم المواطنين حتى لا يضطروا في خياراتهم السياسية إلى الوقوع ضحية ضغوطات السلطة الحاكمة، والتنظيمات السياسية التي تمتلك إمكانات مادية وشبكات العمل الخيري كما هو حال تنظيمات الإسلام السياسي للسيطرة على الناخبين، أو تستخدم الشحن الديني لسلب إرادة الناخبين.
من هنا فإن من متطلبات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي الحقيقي، القيام بإصلاح اقتصادي حقيقي يحرر المواطن من العوز والحاجة للدولة أو المتنفذين، وتقوية المجتمع المدني، والحد من تغول الدولة وسيطرتها وتدخلها في شئون المواطن والمجتمع وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وفك الارتباط بين السلطة والثروة، وتعزيز حكم القانون، واستقلال القضاء.
طبعا فإن الانتقال من نظام السلطة المستبدة المتحكمة بالشعب إلى السلطة الديمقراطية النابعة من إرادة الشعب، يتطلب إرادة سياسية فعلية للإصلاح من خلال الإقتناع أو تحت ضغط المجتمع وقواه.
إذا فالمطلوب عدة عمليات للإصلاح تسير جنبا إلى جنب وتكمل بعضها ضمن مسار معروف، وآليات متفق عليها، وتحقيق أهداف منظورة، ضمن فترة زمنية مقدرة، تؤدي في النهاية إلى تغيير فعلي في بنية النظام والمجتمع معا.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1757 - الخميس 28 يونيو 2007م الموافق 12 جمادى الآخرة 1428هـ