كشفت دراسة ميدانية عاجلة نفذتها جمعية البحرين للبيئة قبل ثلاثة أيام، بالتعاون مع فريق متخصص من قسم المختبر بالهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية أن «طريق الموت» يلاحق الأحياء البحرية، فيما تهدد الانتهاكات المختلفة على خليج توبلي تنوعه البيولوجي، بل وصل تأثيرها إلى تغير الخصائص الطبيعية للخليج من حيث طبيعية القاع وجودة مياهه.
وقالت الجمعية إنها نفذت الدراسة بعدما نشرت صحيفة «الوسط» يوم الجمعة الماضي موضوعا عن نفوق كميات كبيرة من أسماك «الجواف» على سواحل جزيرة النبيه صالح وسند وجرداب.
واستعرضت الدراسة الميدانية - التي أجراها فريق البحث في المنطقة يومي الجمعة والسبت بعد أخذ عينات من الماء، من خمس مناطق موزعة من أقصى شمال الخليج إلى جنوبه، وإجراء بعض الاختبارات القياسية له - أهم الأسباب التي أدت إلى تفاقم المشكلات في خليج توبلي.
وذكرت أن من بين الأسباب الوجيهة الردم البحري، وكذلك أنشطة القطاع الخاص (مصانع غسيل الرمال)، وتصريف مياه الصرف الصحي (من محطة توبلي لمعالجة المياه) مؤكدة أنه لا يمكن الفصل بأي شكل من الأشكال بين تأثيرات هذه الأسباب، ما يؤدي إلى بناء نتائج تكاد تكون مجتزئة لا تعطي صورة متكاملة لحقيقة الوضع المتردي في هذا المسطح المائي المهم والحيوي.
النفوق ليس الأول من نوعه
وكشفت الدراسة أنه بناء على إفادات الصيادين وأهالي المنطقة، فإنها ليست المرة الأولى التي تحدث فيها ظاهرة نفوق الأسماك، لكن هذه المشاهدات لا تستند إلى إحصاءات من جهات علمية متخصصة، وهو ما يدعو إلى التساؤل عن دور الجهات المعنية كمركز البحرين للدراسات والبحوث، ويضع القطاع الخاص، المستفيد من هذا الخليج سواء من حيث الموقع أو الموارد، أمام مسئولية أخلاقية ومهنية في المحافظة على استدامة هذه الموارد، ومدى التزام هذه المؤسسات بمعايير الجودة والاتفاقات الدولية التي وقعتها المملكة لحماية الموائل الطبيعية.
ما الذي نفق في خليج توبلي؟
لاحظ فريق البحث نفوق كميات كبيرة من أسماك «الجواف» تحديدا، وهذا ما أثار عددا من الأسئلة منها: ما المقصود بالنفوق؟ وما الذي نفق؟ ولماذا أسماك «الجواف» دون سواها؟ هل هناك أنواع أخرى من الأسماك؟ ما أسباب نفوق هذا النوع من الأسماك؟ ما الخصائص السلوكية لهذا النوع من الأسماك؟ هل هناك علاقة بين هذه الخصائص وأسباب النفوق؟
وكشفت الدراسة أن الأسماك النافقة تتبع عائلة السردينيات Family clupeidae وهي تشمل «الجواف» Nenatalosa nasus و«العوم» Sardinella gibbosa وتمتاز هذه الأسماك بسلوك مشابه تماما لسلوك أسماك «الميد»، إذ تسبح هذه الأسماك في جماعات كبيرة في المياه الساحلية الضحلة. وهي أسماك مهاجرة مضغوطة الجسم اسطوانية الشكل تتغذى على العوالق الهائمة عن طريق شفط المياه مع الرمال واستخلاص العوالق ثم إخراج الماء عبر الخياشيم.
وأوردت الدراسة 3 سيناريوهات لنفوق الأسماك، إذ لا يمكن التعويل على سبب واحد فقط لتفسير نفوق أسماك «الجواف» بناء على المعطيات العلمية الأولية التي توافرت.
درجة الحرارة
وفي السيناريو الأول، ذكرت الدراسة أن لدرجة الحرارة دورا حيويا في حياة الكائنات الحية، وبالذات الأسماك، إذ إنها من ذوات الدم البارد، إذ يؤدي ارتفاع درجة حرارة المياه إلى موت الأسماك عندما تبدأ درجة الحرارة بالارتفاع إلى أكثر من 30 درجة مئوية، وبالذات الأسماك الساحلية، كما هي الحال مع أسماك «الجواف»، ومن ذلك يمكن القول إن ارتفاع درجة الحرارة قد يكون سببا رئيسيا في نفوق هذه الأسماك، إلا أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك كائنات حية كثيرة تعيش على الساحل كأسماك «الميد» و«البدح» التي تتشابه من حيث كونها تسبح في جماعات بالقرب من الساحل، ولم يحصل لها نفوق كأسماك «الجواف»، وهذا يجعلنا نحد من دور ارتفاع درجة الحرارة باعتباره سببا رئيسيا في ظاهرة نفوق الأسماك.
ويعزز من ذلك - وفق ما يراه فريق البحث - أن درجة حرارة الجو ودرجة حرارة سطح الأرض المسجلة في اليومين اللذين من المحتمل أن تكون ظاهرة نفوق الأسماك قد حدثت فيهما، إذ سجلت درجة حرارة الجو العظمى يوم الأربعاء الموافق 20 يونيو/ حزيران الجاري 40، والصغرى 30. وكانت أبرد درجة حرارة للأرض في ذلك اليوم 24.2 درجة مئوية. أما في يوم الخميس الموافق 21 يونيو فكانت درجة حرارة الجو العظمى 40، والصغرى 31، وبلغت أبرد درجة حرارة للأرض 26.2 درجة مئوية، ما يعني أن درجة حرارة سطح البحر في المعدل الطبيعي. وأكدت أن هذه الأرقام متقاربة مع القراءات التي تم تسجيلها أثناء المسح مع فريق الهيئة العامة للبيئة، إذ سجلت درجة حرارة المياه 31 درجة مئوية، فيما بين الساعة 1.30 و 2.30 ظهرا، علما بأن درجة حرارة الجو العظمى 38.2 والصغرى 29.0، وبلغت أبرد درجة حرارة سجلت لسطح الأرض 26 درجة مئوية.
أما عن السيناريو الثاني المحتمل وهو «المؤامرة»، ذكرت الدراسة أن أنصار هذا التفسير يمكن تصنيفهم إلى رأيين، يرى أصحاب الرأي الأول أن هناك مجموعة من المخالفين لقانون حظر صيد الروبيان خلال هذه الفترة، ونتيجة استخدامهم لشباك الجر القاعية علقت كميات كبيرة من الأسماك، ومنها أسماك «الجواف» وتم التخلص منها، لأنها ليست ذات قيمة اقتصادية، فألقاها اليم على الساحل فالتقطتها الصحافة. بينما يرى أصحاب الرأي الثاني، وهؤلاء من جهات رسمية، أن هناك من يحاول تشويه سمعة بعض الجهات المعنية بقضية خليج توبلي وخلق أجواء قلق وتوتر لإثارة النقمة تجاهها.
وفي حين قالت الجمعية إنها لا تستطيع أن تستبعد هذا التأويل بالمطلق «فالأسماك النافقة كما هو ملاحظ كانت من نوع واحد عموما، كما أنها -أي أسماك «الجواف» النافقة - كانت من دفعة واحدة، أي من الطول والحجم نفسيهما» فإن «حظوظ صدقية هذا الرأي ليست بالقوية، ففيه نوع من التهرب من المسئولية لجهات طالما اتهمت بأنها وراء هذا التلوث في الخليج».
طريق الموت
وفي السيناريو الثالث، قالت الجمعية إنه من خلال المسح العلمي الذي قامت به بالتعاون مع قسم المختبر بالهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية، يوم السبت الموافق 23 يونيو لقياس الخصائص الكيماوية لمياه خليج توبلي، تم تسجيل عدد من الملاحظات، إذ كانت نسبة الأكسجين في النقطة 1.2 ملليغرام/ لتر وهي نسبة ضئيلة جدا لكي تتمكن الأحياء البحرية من العيش.
وأوضحت الدراسة أن المعدل الطبيعي للأكسجين ما بين 3.3- 7 ملليغرام/ لتر، كما أن الأمونيا والنيتريت والنترات «الفضلات» مرتفعة جدا بمعدل 20 ضعفا عن المعدل الطبيعي. وطبقا لهذا السيناريو قد تكون أسراب من أسماك «الجواف» قد مرت بهذه المنطقة للتغذية، وخصوصا أن هذا النوع من الأسماك يتواجد في المناطق الساحلية الطينية ويتغذى عن طريق شفط الماء والرمال لاستخلاص العوالق كطريقة في التغذية، ويقدر بعض الصيادين عدد أسماك «الجواف» في السرب من 400 إلى 500 سمكة في السرب الواحد. ويضاف إلى هذا المعطى عامل آخر يستحق الدراسة وهو ما يتعلق بحركة المد والجزر وعلاقتها بالتيارات البحرية وتأثير ذلك على حركة الأسماك وانتشار آثار التلوث في الخليج عموما.
محطات رصد للبيئة البحرية
وفي ختام الدراسة، طالب فريق البحث بإجراء دراسة شاملة للخليج من جميع الجوانب لتحديد المخاطر والأهمية البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي يمثلها خليج توبلي، وعلى أساس النتائج لابد من تحديد استراتيجية واضحة للتنمية في خليج توبلي والمحافظة على الموارد الطبيعية.
كما دعت الدراسة إلى إنشاء محطات رصد للبيئة البحرية على غرار محطات رصد جودة الهواء، وبالذات في المناطق الصناعية ومناطق الصيد، وإصدار تقارير دورية عن نسب تركز العناصر الثقيلة في أنسجة الكائنات البحرية والمياه، ومدى تأثيرها على المواطن، وتوفير «بنك معلومات» للظواهر التي تهدد البيئة، من أجل الرجوع إليه للتعرف على أبعاد هذه المشكلات.
العدد 1757 - الخميس 28 يونيو 2007م الموافق 12 جمادى الآخرة 1428هـ