حسنا ما خرج به «مؤتمر الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية»، من مقررات. وهو خطوةٌ جيدةٌ في الطريق الصحيح، إذا توافرت النوايا الحسنة للأطراف المعنية فسيصل إلى نتيجة مرضية، ولو بعد سنوات.
الطريق ليس ممهدا بالورود، وليس من السهل في بلد عربي أن تقنع نظاما بالاعتذار عن الفظائع التي ارتكبتها أجهزته الأمنية في ظل قانون «أمن الدولة»، إذ جرت الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان على نطاق واسع، حتى وصلت إلى انتهاكات الأعراض وحرمات المنازل واقتحام حتى غرف النوم.
هذه الفظائع لم تصبح تاريخا بعدُ حتى يطالب بنسيانها بعضٌ ممن لم يكتوِ بنارها. ويقينا لو استمر القانون المذكور حتى اليوم، لأحرق أصابع أعضاء تلك الجمعيات «السياسية» المستجدة، وخصوصا بعد هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 وضرب العمليات «الجهادية» في بلدان الجوار.
المؤتمر حدّد الخطوط العريضة للتحرك المستقبلي كما يفترض، لكن عددا من المداخلات كشفت عن كم هائل من الغضب المكبوت، ولم أكن أتصوّر - على رغم قربي إلى الساحة - وجود هذا الخزين من المواد المشتعلة في القلوب. وربما ما زاد الحنق وفجّر الغضب أمران: الموقف الرسمي المتردد الذي أوصد أبواب الأمل أمام حلحلة هذا الملف الإنساني المعقد (وأشرت إلى ذلك فيما سبق)، والموقف الآخر المتمثل في دخول أطراف متطفلة وطفيلية (نواب وموالاة وحمّالية بنادر) على الخط للتشويش وقطع الطريق على التعاطي الرسمي العقلاني.
لم يكن مقرّرا عرض تجارب الضحايا واعترافات المعذَّبين أمام المؤتمر، ولكن بعض المداخلات كانت موجعة للقلب، حتى إن أحدهم عندما بدأ سرد «لقطات» قصيرة من أنواع العذاب الذي تعرّض له، سقطت إحدى السيدات في نوبة هستيرية من الصراخ. شابٌ آخر بعين زجاجية نتيجة إصابته بشظايا رصاص، لم يتمكن حتى الآن من جمع مبلغ 700 دينار حتى يخرج كرات الرصاص الدقيقة من عينه. شابٌ ثالث أصيب بالرصاص في التسعينات في الحركة المطالِبة بعودة البرلمان، اصطحب طفلتيه مع زوجته إلى المنصة، وكشف عن بطنه وشاهد الجميع شقا طويلا من أثر الإصابة. ويقول إنه استدعي قبل أسبوعين وسئل عن عدد المسيرات التي شارك فيها، وزيارة مشيمع له في المستشفى قبل 13 عاما! مثل هذه اللقطات لو عُرِضت على تلفزيوننا الوطني لأحدثت هزّة في الضمير البحريني، وصحوة في الوجدان العام، إلاّ من جعل الله على قلبه غشاوة من حقد دفين.
الكثيرون أكّدوا أن الماضي لم يمت، ولا يمكن نسيان فظاعاته؛ لأنه معاناة يومية مازالوا يتنفسونها، ألما نفسيا وعذابا جسديا وعاهاتٍ، ومع ذلك لم يدعُ أحدٌ إلى الثأر أو الانتقام. وإذا أردنا لهذا البلد خيرا فعلينا أن نتعامل مع الحقائق وليس مع الأوهام. أبو العتاهية يسوق في أرجوزته بعض حقائق الحياة:
لكل ما يؤذي وإن قلّ ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
وفي هذا الشعب الكريم الذي طال سهره، هناك آلافٌ ممن عُذّبوا وسُجنوا؛ ومئاتٌ ممن هُجِّروا أو هاجروا خوفا من الملاحقات؛ وعشراتٌ ممن قُتِلوا بالرصاص أو تحت التعذيب... كل ذلك من أجل الإصلاح وعودة الحياة النيابية، فهل نستكثر عليهم المطالبة بالإنصاف؟
كلمة للوزيرة
تلومنا الوزيرة كما لمناها، وهي تعلم براءتنا من محاولة توريط وزارتها في «التجاذبات السياسية»، وإنما كنا نرد على اسطوانة رسمية مشروخة تجاوزها الزمن، ولابد للبحرين أن تبحث بنيةٍ صادقةٍ عن طريق لعلاج الجروح؛ لترفع رأسها بين الأمم، بدل أن يذكرها العالم ببلد الـ 7000 معتقل ومُهَجَّر وشهيد... ومحروم من العدالة والإنصاف.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ