عملية التسلم والتسليم التي تمت بين رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والمستشار المالي (وزير الخزانة) غوردن براون على مستوى قيادة حزب العمال وإدارة الدولة ستظهر نتائجها السياسية والميدانية خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. فالعملية بطبيعة الحال سلمية ودستورية، ولكنها تحمل في تضاعيفها تحولات تتصل بتلك المتغيرات الداخلية والأوروبية والدولية.
الاختلاف بين القيادتين ليس انقلابيا في اعتبار أن مصالح الدولة العليا لا تخضع عادة في مثل هذه البلدان لمزاج الفرد وطموحاته الشخصية، بل إنها تلبي حاجات المجتمع وشروط المؤسسات ضمن لعبة تنتظم معادلاتها تحت سقف وطني مشترك. وبهذا المعنى الاستمراري وجدت مؤسسات الحزب الحاكم (العمال) أن بلير فقد وظيفته ولم يعد دوره مقنعا للرأي العام وتحول إلى ثقل معنوي يعطل المهمات الموكولة للمؤسسات ويعطي فرصة للحزب المنافس (المحافظون) للعودة إلى الحكم.
أمضى بلير عشر سنوات في رئاسة الحكومة وقام خلال هذه الفترة الطويلة نسبيا بإعادة تأسيس قواعد عمل لنشاط حزب العمال تختلف في ظروفها عن سياسته التقليدية التي اشتهر بها في مراحل أخرى. فالحزب في عهد بلير أجرى مصالحة مع الثاتشرية (زعيمة حزب المحافظين مارغريت ثاتشر) من حيث توقفت. فهو لم يلغِ تلك القرارات التي اعتمدتها خلال فترة حكمها وإنما وافق عليها وثبّتها، ولكنه رفض استكمال ما خططت إليه من خطوات.
أدت المصالحة إلى نوع من الاستقرار في سوق العمل وعززت الثقة بسياسة بلير المالية فتشجعت الاستثمارات وقامت بتوظيف رؤوس الأموال من دون خوف من زيادة الضرائب وتحريك النقابات. وبسبب هذه المصالحة التاريخية بين الحزبين على مستوى التعامل مع السوق شهدت بريطانيا فترة من الازدهار الاقتصادي والنمو المطرد للطبقة الوسطى. فـ «العمال» وبحكم التحولات الاجتماعية لم يعد حزب النقابات والطبقات الكادحة والمحرومة كما كانت صورته في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وإنما بات يشكل ذاك الوعاء السياسي لحراك طبقة اجتماعية أخذت تتسع وتنتشر وتلعب الدور الأساسي في نمو الاقتصاد القومي.
هذه الصورة المختلفة أطلق عليها إعلاميا تسمية حزب العمال الجديد. والقصد بالجديد أن الحزب لم يغادر مواقعه القديمة ولكنه أعاد تحديثها لتتأقلم أو تتكيف مع متغيرات طرأت على بنية المجتمع البريطاني ونمو شريحة استهلاكية وفئات تطمح إلى تطوير هيكلها الاجتماعي ليتناسب مع اقتصاد ما بعد الثورة الصناعية. وساهم هذا الجمع بين القديم والحديث والموروث والمستحدث والماضي التقليدي والجديد المقبل من مختلف الجهات في تطوير آليات الحزب وتقدمه نحو استيعاب حاجات قوى اجتماعية باتت تشكّل غالبية سكانية في دولة قادت العالم منفردة إلى فترة تزيد على القرن.
التطور الميكانيكي الاجتماعي فرض آلياته السياسية والتنظيمية على حزب العمال ولم يعد بإمكان قيادته التاريخية تجاهل هذه الظاهرة التي طغت على حياة المجتمع ونقلته من ثقافة تقليدية ومحافظة إلى ثقافة أكثر تنوعا وانفتاحا. وبسبب طبيعة الأحزاب البريطانية (الأوروبية) المنفتحة والبراغماتية والبعيدة عن الشكليات الايديولوجية أتيحت الفرصة لقواعد الحزب لتغيير القيادة واستبدالها بوجوه شابة قادرة على استيعاب المتغيرات وفهم التحولات والتجاوب مع حاجات السوق ومتطلبات جيل جديد يمتلك ثقافة ليست بالضرورة متجانسة مع تاريخ الحزب التقليدي.
بلير وقيادته وشبكة الحزب الصاعدة شكلوا ذاك التحالف التنظيمي الذي تحمل مسئولية القرار التاريخي والبدء في تعديل قواعد اللعبة وهذا ما أتاح له لاحقا خوض الانتخابات تحت شعارات جديدة جذبت إليه تلك الطبقة الوسطى النامية فأعطته ثقتها ففاز في الدورة الأولى وثم الثانية... إلى أن أخذ الحزب يراوح مكانه ويتراجع شعبيا.
عشر سنوات كانت كافية لبلير لتثبيت تلك المصالحة بين نظرية القطاع العام (الدولة قوة منتجة) وبين نظرية السوق (الشركات تقود الإنتاج). ومثل هذه المصالحة بين القوتين كانت تعني عمليا الحرص على توليد أفكار وابتكار آليات تضمن عدم انزلاق الدولة نحو الفوضى الاقتصادية وتمنع قوانين السوق من التلاعب بحقوق الناس ومكتسباتهم الاجتماعية والصحية والتربوية وضمانات التقاعد والشيخوخة. وهذا ما نجح به بلير داخليا بإشراف وزير الخزانة الذي خلفه في رئاسة الحزب والحكومة.
ثقافة الاختلاف
مشكلة بلير لم تكن داخلية، فهو لم يبالغ في تقديم الوعود، ولكنه أعطى كلمة للمحافظة على تلك الإجراءات التي ارتكبتها ثاتشر وإعادة توظيفها في سياق وسطي يجمع بين موقع الدولة التقليدي ودور السوق الجديد.
بلير سقط في سياسته الخارجية وتحالفه المثير للجدل مع أسوأ إدارة أميركية عرفتها الولايات المتحدة في تاريخها المعاصر. فالقيادة الجديدة للعمال ألحقت الدولة البريطانية باستراتيجية انقلابية دولية خطط قنواتها وغاياتها ذاك التيار الايديولوجي الذي سيطر على واشنطن وقادها في حملات عسكرية استهدفت إعلان الحرب على العرب والمسلمين بذريعة مكافحة «الإرهاب» وشبكاته الممتدة من أفغانستان إلى كل مكان.
التبعية البريطانية لسياسة جورج بوش الدولية أتلفت شعبية بلير الداخلية وأخذت تحرق أوراق حزب العمال الجديد في السوق بعد أن ظهرت قوى شابة ترفض الانجرار نحو مفاهيم «الإمبريالية الجديدة». فهذه المفاهيم البالية التي حاولت إدارة واشنطن إحياء قواها مستفيدة من نمو «العولمة» اصطدمت بعوائق صلبة بدأت تشكل تلك الكوابح السياسية وتمنع على هذا التيار جرف بريطانيا من مكانها وأخذها من جديد إلى عالم كانت تستبد به وتسيطر عليه في السابق.
لم تظهر مشكلة بلير في السنة الأولى من عهد بوش الابن وإنما احتاجت مدة زمنية تجاوزت السنوات الأربع حتى ارتسمت معالمها في استطلاعات الرأي. وأدى تغير مزاج الشارع إلى نمو قوة الأحزاب المنافسة وتدني شعبية حزب العمال ما أدى لاحقا إلى طرح السؤال بشأن وظيفة بلير ودوره السلبي في تحطيم مستقبل الحزب. ونظرا إلى نمو الاختلاف بين سياسة داخلية غير مزعجة وسياسة خارجية فاضحة قررت قواعد الحزب البدء في تغيير منهج القيادة واستبدال بلير بوزير يلقى الاحترام وليس مهووسا بايديولوجية بوش وتيار «المحافظين الجدد».
هذا الاختلاف التكويني بين منهج «العمال الجديد» وسياسة «المحافظين الجدد» أنتج مفارقة بريطانية ولّدت قوة انتخابية بديلة ترفض الاستمرار في خطوات الدمج الايديولوجي الداخلي بين «العمال» و «المحافظين».
الأمر المذكور حصل مع ثاتشر حين بالغت في سياسة اقتصاد السوق وتحطيم النقابات والمكتسبات الاجتماعية وإضعاف دور الدولة التنظيمي والإشرافي والرقابي ما أدى إلى اصطدامها مع قيادة حزب المحافظين والإطاحة بها لمصلحة أحد وزراء حكومتها جون ميجور. فثاتشر لم تسقط في الشارع وضمن جولة انتخابية وإنما هبط دورها القيادي في الحزب حين لاحظت شبكاته القاعدية وكوادره أن شعبية المحافظين تدنت إلى درجات السقوط الكارثي. وبلير أيضا لم يسقط في جولة انتخابية شارعية وإنما أزاحه الحزب حين اكتشف مدى تدني شعبيته في استطلاعات الرأي.
الحزب أولا، والدولة أولا، ورأي الناس أولا. وهذه النقاط الثلاث تشكل قواعد منهجية في تعامل السلطة مع الناس والقيادة مع القواعد وفي رؤية السياسة من خلال متابعة المتغيرات العامة وتحولات الشارع.
خروج بلير من زعامة الحزب ورئاسة الوزراء جاء بناء على عملية تفاعلية داخلية أجرتها القيادة ووجدت أن المصلحة العليا أكبر من الفرد ومزاجه الشخصي. وهذه الخطوة ترى فيها قيادة «العمال» حركة ضرورية لإنقاذ الحزب من السقوط في جولة انتخابية ثالثة. فالتبديل يعطي حيوية وينعش الذاكرة ويجدد الأحلام ويفتح الطريق أمام قوى تفكر بأسلوب مختلف وليس بالضرورة يعاكس أو ينقلب على السابق أو يطيح به ويحطم صورته ويدوس «كوفيته» ويلغي تاريخه ويشطبه من الماضي. ثقافة التسلم والتسليم مسألة أخلاقية والعملية ليست سياسية بقدر ما هي تعزز الاحترام لاختلاف المصالح.
قوة الغرب ليست في نموذجه «الديمقراطي» التداولي للسلطة. هذا جانب من الصورة. الصورة الأهم تكمن في ثقافة الاحترام والنزوع إلى التجديد من ضمن الاستمرارية. فمن لا يحترم غيره لا يحترمه الآخر. ومن يطيح بمن سبقه فإن الآتي لن يقيم الاعتبار للحالي. ومثل هذه الوحدة في الاستمرار والاستمرار في التجديد من دون الإفراط بالقديم ثقافة نحتاج إليها في حياتنا ومجتمعاتنا وأحزابنا وأنظمتنا وثوارنا «الأشاوش» من الرافدين والأرز إلى غزة.
عشر سنوات كانت كافية لبلير ليمضي في طريقه نحو التقاعد أو لتجديد وظيفته في «الشرق الأوسط» أو «الاتحاد الأوروبي» بينما في منطقتنا تمضي السنوات على الصورة نفسها: السلطة تجدد لنفسها والوحدة تتجه نحو الانقسام والانهيار ودوس السابق بالأحذية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ