العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ

نحو عدالة لا «عدامة» انتقالية!*

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

بدا لي بأننا كنّا جميعا محل أنظار عيون الشهداء «سعيد العويناتي»، «هاشم العلوي»، «محمد بونفور»، «محمد غلوم»،«جميل العلي»،«مزاحم الشتر» و«محمد الشاخوري»، والتي تحيطنا من كل الجهات في «قاعة فلسطين» بجمعية «وعد»، وهي تحدّق فينا وتحلّق بنا بملء الحيوية والإشراق مطالبة المشاركين والحاضرين في «ورشة الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية» بعدم التخاذل عن تحقيق الحقيقة وممارسة الإنصاف والسعي نحو التوصل إلى المصالحة الوطنية لتخليد ذكراهم العطرة كشموع نضالية وطنية على دروب المطالبات الشعبية بتحقيق العدالة والإصلاح والديمقراطية!

هل كانت عيون شهداء الوطن حينها تبصرنا وتستحثنا ببريقها على عدم التخلي عن تلك المطالب المجتمعية التطورية التي لا يمكن الانطلاق نحو تحقيقها من دون الإيفاء بمتطلبات العدالة الانتقالية الضرورية، وهي أبسط المتطلبات التوافقية والتعاقدية التي تحقق أعظم الأثر من تطمين لأهل الشهداء والضحايا الذين لايزالون تتآكلهم الفاقة وواقع الحرمان والاغتراب بأن تلك العهود السوداء الغابرة لن تعود من حيث ولّت؟!

إنّ النهوض بتحمل المسئوليات الأخلاقية من قبل الدولة، والتقدّم نحو تحقيق العدالة الانتقالية يعزز الخطى الوطنية ويقوي رابطة الولاء ويدعم أحاسيس الثقة والمعزة والاحترام تجاه المواطنين لدولتهم التي تضررت وتشوهت كثيرا نتيجة للأضرار الجسيمة والإعاقات البدنية والنفسية والمعيشية التي لحقت بالمواطنين وعوائلهم جرّاء الانتهاكات الحقوقية الممارسة باسم الدولة حينها، والتي من دون معالجتها جميعا تتاح الفرصة للأحقاد في أن تتراكم وتتجمع وتتوارث أبا عن جد لتكون لغما ناسفا ومهددا للاستقرار الاجتماعي والوطني في أية لحظة، وهو ما لا نتمناه أبدا في أن تظل هنالك مثيرات محفزة لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي تتعزز بالحرمان والاغتراب وغياب الضمانات الحقوقية والتعويضية من قبل الدولة لجميع مواطنيها المتضررين في الحقب السابقة، وإن كان التعويض من دون اعتذار في حد ذاته انتقاص أكبر لكرامة أسر الضحايا والشهداء من انتقاد عدم دفع هذا التعويض بالمرة!

فجميع الخطوات المتبوعة نحو الاعتراف بالحقيقة لتحقيق الإنصاف والمصالحة الوطنية تعمل على تقريب الدولة من المواطنين حينما تمارس دورا أخلاقيا واجبا بإعادة الكرامة الإنسانية إليهم، والتي انتهكت بأسفل وأحط وسائل التعذيب وأكثرها وحشية، فمثل هذه الكرامة البشرية المكفولة بالشرائع الدينية والإنسانية تتساقط أمام أقدامها قيم الحرية والمساواة التي لا توجد هناك أنظمة ديمقراطية مؤسساتية أو حتى أنظمة «دمقرطة» في طور النشوء والارتقاء طالما ظلت هذه الكرامة الإنسانية رهينة أغلال العهود السوداء الغابرة، ولاتزال على جسدها ونفسها وروحها آثار الجراح والآلام التي لاتزال ملتهبة وحارقة.

لن تكن مضيعة فادحة للوقت لو انتظر الضيفان النائب «صلاح علي» والوزيرة «فاطمة البلوشي» لاستماع شهادات ضحايا التعذيب وجرائم العهد الغابر بعد أن تلا كل منهما بيانه الإنشائي البليغ وغادر على عجالة من أمره، لربما أبصرا حال المواطن المسكين «السيد علوي السيد حسن» المصاب بارتجاج في الدماغ، وهو الذي عرجت به تقنيات التعذيب السافلة بإبداع نحو ما يوحي بأنه في عقده السبعيني على رغم كونه مازال في الخمسين من عمره، واستمعوا لحاله البائسة على لسان ابن أخيه، ومثل هذه الحال لا تحمِّل هذا المواطن أي واجب تجاه دولة لم تحقق له أيا من حقوقه الإنسانية!

ماذا لو شاهدَا النظرات الحائرة لابن الشهيد «حسين الصافي» الذي لم يرََ أباه، واستمعوا لشهادة شقيقه؟!

ماذا لو استمع الضيفان الزائران بصفتهما نائب شعب ووزيرة، وذلك من باب الذوق والاحترام الإنساني الواجب لأسر الضحايا والشهداء لشهادة «أحمد مكي» و«عباس عواجي»، وهم الذين عانوا الكثير لأجل كرامتنا ومازالوا يعانون في دولة لم تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية قبل حقوقهم المواطنية؟!

ماذا لو شاهدَا دموع «إيمان شويطر» وهي تروي سيرة زوجها الشهيد «هاشم العلوي»؟!

ماذا لو تكلفا «صلاح علي» و«فاطمة البلوشي» قليلا عناء دقائق، ولهما منا كل الشكر والتقدير، للاستماع لعبرات طالبة الثانوي «فاطمة علي أحمد» المتفوقة القلقة، والتي لن تتمكن من تحقيق أحلامها لكونها لا تحمل الجنسية البحرينية في بلد مصاب بلوثة التجنيس لكل من هبّ ودبّ وخطا وشب؟!

ماذا حقق الميثاق الوطني والتجربة الإصلاحية لهؤلاء ممن ظلوا خارج دائرة الكرامة الإنسانية وممارسة أبسط الحقوق المواطنية سنين طويلة، وربما سيبقون كذلك محرومين من المعيشة الكريمة والتمثيل السياسي الذين رووا بدمائهم نبتة فانتزع حصادها الآخرون؟!

هل إنصاف هؤلاء الضحايا وأسر الشهداء المخلّدون يحقق مكاسب سياسية وفئوية كالتي نالها البعض الطارئ سياسيا ومدنيا بالمجان، وعبر سلالم جمعيات «الميوة» السياسية و«المراكز العامّة» على حساب نضالات الشعب البحريني، وخصوصا ممن كانوا حينها فدائيي المقدّمة في مقاومة الاحتلال والرجعية وممن رفع اسم البحرين بالخارج كالشهيد «مزاحم الشتر»، فأنكرتهم «عذاري» التي لا تكل ولا تقرف من سقاية البعيد وترك القريب؟!

لماذا يُرفض رسميا الاستعانة بتجربة العدالة والإنصاف المغربية الناجحة لتحقيق أهداف وطنية سامية في ظل ظروف متشابهة، عسى أن تكفل الاستقرار الوطني الداخلي، وتفتح أبواب المصالحة لتحقق أجمل الأحلام بوطن يحضن جميع أبنائه كما قال جلالة الملك المفدى، في حين تستورد فذلكات تقنية فاشلة كـ «التصويت الإلكتروني» ، ويتم تطييب خواطر مَنْ يطالب باستيراد مشروع هيئات الأمر بالمعروف والمنكر على رغم كون منتجوها الأصليون قد ذاقوا بها ذرعا وأخذوا يحاكمون بعض عناصرها؟!

هذا إن لم تكن جميع أنصبتنا السياسية والخبرات التنظيمية مستوردة من الخارج، ولنا في تجربة «NDI» خير مثال، فصقل التجربة الديمقراطية قد لا يفلح معه كثيرا «الدبس» و«ماء الكروف» و«المرقدوش»!

فهل الإنسان البحريني يختلف عن الإنسان المغربي في القيمة والكرامة الإنسانية؟!

لا حاجة إلى دفن الرؤوس في الرمال ومواصلة التهرب ومحاولة خلق مبررات وتسويغات سياسية واهية لا تحترم ذكاء المواطن البحريني الفطري الذي لا يريد أن يلدغ من الجحر ذاته مرتين، فماذا لو كان للنائب «صلاح علي» ولـ «فاطمة البلوشي» ولغيرهما من نواب وشخصيات رسمية عالية المستوى إخوة وأبناء وأقارب تعرّضوا ظلما من دون وجه حق للتعذيب وانتهاك الحرمات الآدمية كالتي تعرّض لها هؤلاء المواطنون؟!

كيف ستكون مواقفهم الإنسانية حينها؟!

هل سيساوون بين الجلاّد والضحية، وفي ذلك ظلم كبير؟!

وعلى رغم نفي الضيفين الزائرين للحاجة لهذه الدعوة الوطنية لإنشاء هيئة للمصالحة التي أطلقتها قوى المجتمع المدني فإنهما ومن خلال ما ذكراه من رغبتهما في تحقيق أهداف وطنية سامية لم يختلفا مع ما تود أن تحققه قوى المجتمع المدني من أهداف وطنية عبر الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية، فعلام الممانعة والاختلاف على رغم وحدة الهدف وطنيا؟!

ولعلّ ما تقتضي الحاجة الظرفية الحالية في طور العمل المؤسساتي المدني لتقصي الحقائق وتحقيق الإنصاف والمصالحة الوطنية هو التأكيد الأولويات المبدئية التي تباحث حولها المشاركون والحاضرون بالورشة في جمعية «وعد» حول أن الاعتذار والتعويض والتأهيل لابدّ أن يشمل جميع أسر ضحايا وشهداء الانتهاكات الإجرامية البشعة التي نالتهم خلال المراحل الزمنية المختلفة من التاريخ البحريني، وليس فقط خلال فترة التسعينات كما قد ينادي البعض للأسف وتخونه وسائل التعبير السليم والدقة في استخدام المصطلحات فلا تنفع حينها حسن النية!

وأن يتم الإدراك بأن نجاح تجربة الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية البحرينية التي نتمنى أن تكون إنموذجا بحرينيا يقتدى به إقليميا وعالميا، لن يتسنى لها أن تتأسس وتتمأسس كيانيا من دون وجود قواعد صلبة من أرشفة موضوعية للنضال الوطني وتدوينه وتوثيقه، والتي ذكر حولها نائب رئيس اللجنة المركزية بجمعية «وعد» عبدالله جناحي عددا من المبادرات والخطوات التي سيتم البدء فيها من قبل الجميع، والتي ينبغي أن تتشارك في حمل هذا الشرف الجبّار جميع منظمات المجتمع المدني الحقيقية.

مطالبات التعويض يجب أن تشمل إلى جانب أسر الضحايا والشهداء مَنْ تسببت أعمال الشغب والعنف المنفلتة في تدمير وتخريب ممتلكاته وإتلافها جزئيا أو بالكامل، وممن فقدوا آباءهم وأبناءهم وأشقاءهم من كل النواحي والأطراف.

كما ويجب أن يراعي القائمون على هذا المشروع الوطني الكبير أن يوصدوا الأبواب والنوافذ جيّدا عن كل مَنْ يتحيّن الفرصة السانحة للمتاجرة سياسيا بجروح وعذابات ومواجع أسر الضحايا والشهداء من الداخل قبل الخارج، وممن يود الارتزاق والانتفاع من أية مبالغ تعويضية قد يحتمل صرفها مستقبلا، واتخاذ هذه القضايا الحساسة جسرا لتحقيق مآربه الثانوية، ولهؤلاء أمثال كثيرون في كل مكان وزمان!

فمن دون تلك الملاحظات الأساسية قد لا يتحقق النجاح لهذه التجربة التاريخية التي نرجو أن تكون تجربة واعدة تتأسى بها منظمات المجتمع المدني في دول المنطقة ومن مختلف أنحاء العالم حينما نسير معا مواطنين ودولة برباط عقدي نحو «عدالة» تصفى بها الأنفس وتتآلف وطنيا، لا ركوب «عدامة» انتقالية قد توحي بتحقيق نزرا من المكاسب والهوامش في الحرية والمساواة التي تمس الشكل الفروع لكنها لا تعالج الجذور، ولا تضمن ثباتا واستمرارية جادة طالما ظلت كرامة المواطن والإنسان البحريني مهدورة، وتراكمت الأحقاد والضغائن الموجوعة مع تراكمات التجربة الإصلاحية زمنيا!

* «عدامة»: لفظ عامي يستخدم لتسمية المناطق المرتفعة نسبيا.

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً