عندما توفي الإمام محسن الحكيم (اعتقد ان ذلك كان في العام 1970) خرجت مظاهرات كبرى في النجف الاشرف تندد بحزب البعث الذي قطع الماء والكهرباء عن الحكيم وطارد ابنه السيدمهدي. وكنت مع اخي الاكبر محمد جميل والسيدعلي بن السيدجواد الوداعي في حضرة الإمام علي (ع) نشاهد واحدة من اكبر المظاهرات المعادية للنظام البعثي. وكان من الشعارات التي رفعها المتظاهرون آنذاك «سيدمهدي مو جاسوس، هذي اشاعة كاذبة». حينها التفت إلى محمدجميل وسألته «من الذي قال إن سيدمهدي جاسوس؟»... محمد جميل نظر الي وقال «شوش... بعدين»... بعد ذلك قال لي: «كيف ترفع صوتك والشرطة كانت بجانبنا، انهم هم الذين يقولون ان سيدمهدي جاسوس».
والدي (الشيخ عبدالأمير الجمري) كان مشاركا في مراسم تشييع الامام الحكيم وألقى كلمة باسم طلاب علوم الدين البحارنة تهجم فيها على حكم حزب البعث، ومنذ تلك الحادثة الدينية اصبح اسمه في القائمة السوداء لدى المخابرات العراقية. لكنه نجا منهم حتى رجوعه إلى البحرين في 1973 ولم يكتشفوا ان الشخص الذي يبحثون عنه (عبدالأمير الجمري) كان مسجلا لديهم باسم «عبدالله منصور محمد». فالوالد كان قد غير اسمه أثناء تواجده في العراق لأنه كان يسافر من وإلى العراق سنويا عبر البر ويمر في الكويت والسعودية قبل ان يصل إلى البحرين أو العراق. وكان اسمه (عبدالأمير) يخلق له مشكلات لدى بعض مسئولي الجمارك عند عبوره الحدود لأن اسماء «عبد» تختص بالله بحسب احد التفاسير الدينية المتبعة في الجزيرة العربية. وبدلا من خلق المشكلات اثناء السفر غير اسمه إلى «عبدالله منصور محمد» وثم اعاد اسمه الاصلي عندما استقر في البحرين لاحقا.
وكان لهذا التغيير في الاسم نجاة من قبضة البعثيين الذين لم يكونوا سيرحموا أي شخص يتجرأ عليهم مهما كانت المناسبة والحدث الذي دعا إلى ذلك.
النجف الاشرف كانت مزدحمة بالعراقيين والإيرانيين والافغانيين والخليجيين وحتى الصينيين (من التيبت) وغيرهم الذين كانوا يفدون إلى مدينة الإمام علي (ع) إما للدراسة او للزيارة. وأسواقها لها اجواء خاصة وتحتوي على كل ما يحتاجه الدارس أو الزائر أو المقيم. وأجمل ما تشاهده في النجف السوق المخصصة لبيع الكتب والتي تتفرع من سوق «الحويش» والسوق الكبير وسوق العمارة.
وكنا نعيش بالقرب من سوقي الحويش والعمارة، ولكن ذهابنا إلى سوق العمارة اكثر لان منزل السيدشرف الخابوري ومنزل الشيخ عيسى أحمد قاسم كانا هناك، وكنا نتردد عليهما. منزل السيدشرف كان قريبا لمنزل الإمام محسن الحكيم وقريبا من حضرة الإمام علي (ع) وكان اكثر ما أستمتع به مشاهدة صلاة الجماعة في «الحضرة» للامام الحكيم. فعدد المصلين بالآلاف التي ينقطع النظر عندما يحاول متابعة الصفوف وعدد «العمائم» التي تركع وتسجد. وكنت اقول لوالدي «لو اراد واحد ان يصل إلى القمر فما عليه الا ان يجمع العمائم على بعضها ويركب عليها ليصل إلى السماء والقمر». تلك الجملة البريئة كانت تعبر عن العدد الكبير الذي يصلي خلف الحكيم. وكان العدد الكبير من المصلين يحتاج الى ادارة اثناء الصلاة، وكان هناك شخص او اكثر يصرخ باعلى الصوت بكلمات محددة (مثل: ركوع، سجود، سمع الله لمن حمده...) منوها ببدء كل ركعة وكل سجدة وكل فعل من افعال الصلاة، لأن الصفوف الخلفية لاترى الامام. وأروع من ذلك هي الرحلة القصيرة من ناحية المسافة والطويلة زمنيا التي يقطعها الحكيم من منزله إلى حضرة الإمام علي (ع) وبالعكس. فالرحلة تستغرق طويلا للعدد الكبير الذي يمشي خلفه وكان بعض الناس يوقفون الموكب لتقبيل يد الإمام الحكيم. وكان هناك عدد من الذين يسيرون في الموكب يحاولون إبعاد الناس (لاسيما الاطفال أمثالنا) من الوقوف في الطريق أو محاولة ايقاف الموكب لتقبيل يد الحكيم وكانوا يؤشرون بأيديهم ويهمسون «وخر، وخر»، بمعنى «ابتعد، ابتعد».
بعد وفاة الإمام الحكيم تسلم ابنه السيديوسف إمامة الجماعة، وعندها تجرأتُ مرة واحدة وأوقفت الموكب لأقبل يده وسط غضب شديد من عدد من الذين كانوا يمشون خلفه.
أكبر مأساة شاهدتها في النجف كان «تسفير» العراقيين من أصل إيراني. فعندما وصل حزب البعث إلى الحكم اعلن الكراهية لكل شخص لديه صلة بالإيرانيين حتى لو كان من الجيل الثالث أو الرابع ممن عاشوا في العراق عشرات وربما مئات السنين. وكانت أول حملة تسفير في مطلع السبعينات (لا اتذكر متى، ولكن ربما العام 1971).
الشرطة العراقية كانت تهجم على المنازل وتسحب من فيها إلى الخارج وترميهم في شاحنات وسيارات من من دون ان تسمح لهم بأخذ شيء وترميهم على الحدود العراقية - الإيرانية. كان الطقس باردا جدا، وبرد النجف شرس جدا لأنه لا يرحم حتى لو لبست كل ما لديك من ثياب، وشاهدت بأم عيني رجالا ونساء كبارا في السن رمتهم الشرطة العراقية في عربات خشبية وهم من دون لباس يقيهم سوى ثياب منزلية خفيفة.
عراقيون آخرون (من أصل إيراني) تم اختطافهم من دكاكينهم وبقيت محلاتهم مفتوحة بينما هم يسفّرون إلى الحدود. الوضع سيئ جدا ولا يمكن تصوره أو احتماله وكان والدي يهمس مع طلاب العلوم الدينية البحرينيين عن الوضع وهم في رعب من هذه السياسة الهوجاء.
ولكن ما كان يرعبني أكثر هو تصرف بعض العراقيين العاديين الذين استغلوا تهجير إخوانهم (الذين يحملون جوازات سفر عراقية مثلهم) وبدأوا يسلبونهم، مضيفين إلى الألم السلطوي ألم الجهل الذي دفعهم لإيذاء غيرهم من دون أي رادع إنساني ذاتي.
وذات يوم كنا داخل المنزل وقد أغلقنا باب الغرفة وكان الجو قارسا، وكنت ألعب مع اخواني ووالدتي تحاول تهدئتنا ولكن من دون جدوى. غير اننا فوجئنا بصوت امرأة على باب الغرفة وهي تهتف «يا أهل الحوش» (يعني يا أهل البيت)...
خرجنا جميعا وإذا بها في وسط المنزل ونحن نسأل كيف تمكنت من الدخول وخصوصا نحن نقفل الباب بثلاثة أنواع من القفول. ولكن يبدو أن الوالدة دخلت المنزل خلفنا ونسيت المفتاح في الباب من الجهة الخارجية وهذه من النوادر القليلة التي تنسى فيها المفتاح. فأخذت المرأة العراقية المفتاح (بعد أن فتحت الباب) ووضعته ما بين صدرها.
وهكذا هرعنا ونحن نسمعها تهتف «يا أهل الحوش»... سألناها ماذا تريد؟ ولكنها سألتنا «أنتم عرب لو عجم؟» فهتفنا جميعا: «نحن عرب من البحرين»... وهنا قالت «لبالي» (بمعنى... أعتقدت شيئا آخر)... ومدت يدها داخل صدرها وأخرجت المفتاح وسلمتنا إياه، وخرجت...
الوالدة كانت خائفة جدا، لان تسفير الإيرانيين كان يعني لبعض الأشخاص احتلال المنزل وسلب ما فيه، وكانت المرأة تتفحص الأمر وفيما لو كنا عراقيين من أصل إيراني (وسيتم تسفيرنا) كانت ستأتي بأشخاص آخرين معها لسلبنا واحتلال منزلنا... هكذا بكل شراسة كانت تجري الامور تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.
منزلنا في اخر سوق الحويش واول سوق العمارة، في طريق (عقد) السيد بوالحسن، وكان من جيراننا الكثير ممن تعرضوا للاذى بعد قيام حزب البعث بتهجير العراقيين من اصل ايراني. كان أحد الشباب اسمه حسن كلستن، اختفى مع عائلته في ظروف قاسية، ومن جيراننا منزل لاحد علماء الدين الايرانيين نعرفه باسم الشيخ الخلخالي (لست ادري ان كان قريبا للشيخ الخلخالي الذي اشتهر اسمه لاحقا في إيران)، وكان لنا جار لديه دكان «عطار» اسمه جبار تبينه، وابناه حافظ وستار، وذات مرة مر عليه البعثيون في دكانه في سوق الحويش وسحبوه الى المخفر لتهجيره مع عائلته. وبعد بهدلات واهانات ثبت لهم انه عراقي من اصل عربي (تبعية عثمانية)، ولكن التجربة التي مر بها كانت مأسوية.
كان من جيراننا ابوعمار، وهو من العجم، وابنه عمار كان رجل دين يلبس العمامة. وعندما جاء البعث الى الحكم نزع العمامة ولبس ثياب «الافندية» وأطال شعره كثيرا، وانضم الى حزب البعث، ولكن هذا لم يرحمه ولم ينقذه من التهجير الذي طاله مع عائلته وظل بيتهم خاليا افترة من الزمن.
وكان من جيرانا ابو معين، ومنزلهم «آيل الى السقوط» وعندما يتساقط المطر لا تستطيع لمس الجدار لانه يكهرب اليد... وذات ليلة هطل مطر غزير وانهدم المنزل على من فيه، وتوفيت امرأة واحدة بسبب ذلك. اصبحنا الصباح واذا بالمنزل الواقع امام منزلنا قد انهدم بالكامل.
ربما ان من اجمل الاسواق كان سوق الكبير، والولد كان يزور دكان ابو مزهر، وهو متخصص في بيع العبي (البشوت)... ومن اجمل الاحياء التي كنا نزورها «حي المعلمين» و«حي السعد»، ومن افقر المناطق كانت «الشوافع» وهي قريبة من شاطيء، ومنطقة منخفضة جدا عن مستوى المنازل الاخرى. الاحياء الرئيسية في النجف القديمة والمحيطة بحضرة الامام علي هي البراق والمشراق والعمارة والحويش.
لم يكن السلب والنهب الذي ازداد بعد مجيء حزب البعث هو الأمر الوحيد، فلقد كان علماء الدين الذين يلبسون «العمامة» يعانون الأمرين كلما مروا في الطرقات، إذ كان يتجمع حولهم بعض السفلة ويهتفون «الموامنة جواسيس، الموامنة جواسيس». و«الموامنة» كلمة تحقيرية لعلماء الدين. والوالد كان يتصدى لهم ويرد عليهم باللهجة العراقية «أدب سز» (يا عديمي الاخلاق)، وثم يراددهم، وكانوا يخافون عندما يرد عليهم عالم الدين ولكنهم يستأسدون عليه اذا سكت عنهم. وفي مرة مر امام منزل احد علماء الدين الكبار المعروفين في النجف وأحاطه السفلة من كل مكان ولم يكتفوا بشتمه ولكن أيضا أهانوه عبر بهدلته باليد وملامسة المناطق الحساسة بصورة سيئة وشديدة. وكنت قد هربت من الموقع واستمريت في المشاهدة من ثقب المنزل. ولكن لم يستطع احد فعل شيء لأن هؤلاء السفلة كانوا يأتمرون بحكومة البعث التي تعتمد على السفلة في كل شيء.
بدأ البعثيون يملأون المنازل في منطقتنا، وصادف ان توفيت جارتنا (أم علي) ما حدا بزوجها وابنيها الانتقال من منزلهم. وكان الشخص الذي حل محلهم احد أفراد المخابرات ومعه اثنتان من اخواته. وعرفنا انه من المخابرات لأنه يلبس ثيابا مدنية وفي كل يوم نشاهده عند احدى بوابات حضرة الإمام علي (ع) يتحدث إلى الشرطة بين فترة وأخرى ويتفحص كل ما يدور من حوله ويداوم يوميا في المكان نفسه.
لم يكتفِ بعمله بل بدأ باستهداف الوالد والتعرض اليه وكل يوم يوقف الوالد ويقول له «لدينا ماء في المنزل يأتي من جهتكم»... ومرة أخرى يقول شيئا آخر، حتى تجرأ مرة وأوقف الوالد في سوق العمارة محاولا الاعتداء عليه بالضرب. كان الوالد بالقرب من دكان «القصاب»، واسمه «لطيف»، الذي نشتري منه اللحم وكان القصاب صديق الوالد، وعندما شاهد شخصا يحاول الاعتداء عليه حمل سكينه الكبيرة وركض باتجاه ذلك الشخص السيئ. وكالعادة، فالجبناء من أتباع حزب البعث يخافون عندما ترد عليهم، فما كان من ذلك الذئب المفترس إلا أن يخضع ويتنازل ويطلب مصالحة الوالد وانه جار يبحث عن تفاهم وليس عن مشكلات.
الوالد كان لديه اصدقاء كثيرون في الاسواق المحيطة بنا. فالرسائل والبرقيات من البحرين كانت تصل الى دكان في سوق العمارة لصاحبه «حسين العذاري»، والوالد يمر يوميا على الدكان. وكان هناك ايضا في سوق العمارة دكان جواد المظفر الذي كنا نشتري منه المواد الغذائية. كثير من الدكاكين كانت ترفع شعار «الدين ممنوع»، وكنت اسأل نفسي، لماذا يمنعون الدين، وكنت اعتقد ان المقصود بذلك دين الاسلام، الى ان عرف بعض افراد عائلتي تفسيري لما كنت اقرأه وسخروا مني وأوضحوا ان الشعار يعني «الاستلاف ممنوع».
كان الوالد يذهب يوميا تقريبا الى سوق لبيع الكتب محاذية لسوق الحويش، وكنت اذهب معه، وكان كل يوم يشتر كتاب صغير أو كبير... وقرر ذات يوم اعادة تنظيم مكتبته في المنزل، وقام بتجليد الكتب وجمع الكتب الصغيرة في مجلدات قوية، ومن ثم ذهب الى نجار وطلب منه صناعة طاولة تناسب جلسة الوالد على الارض، اذ كان الوالد يجلس على الارض ويسحب الطاولة لتغطي ركبتيه ويبدأ بالقراء والكتابة... وكنت قد ذهبت معه الى النجار عدة مرات، ويوم اكتملت الطاولة جاء بها فرحا الى مجلسه إذ توجد مكتبته الخاصة، ووضعها وجربها وكان سعيدا بها، واعتبرها قوية جدا... فجأة خطرت ببالي فكرة لاختبار قوتها، وهرعت الى مطرقة كان يستخدمها الوالد، ورفعت المطرقة الى اعلى شيء وهويت بها على الطاولة، فما كان من مقدمة المطرقة الا واخترقت سطح الطاولة الجميل جدا...
الوالد غضب مني كثيرا، وركض خلفي لمعاقبتي لانني خربت طاولته في اليوم الاول لاستلامها، ولكنني اعرف كيف اوقف مطاردته لي، فهرعت الى أعلى السطح، وهناك اركب فوق حائط السطح المصنوع من مواد عدة من بينها «صفيح الجينكو»، وبعد ذلك أضع رجل على حائط منزلنا، ورجل اخرى على حائط الجيران... الوالد يتوقف فجأة، فالفكرة تنجح في كل مرة، لانه اذا طاردني فقد اقع بين الجدارين الى الارض، ولكنني لن اصل الى الأرض اذا وقعت، لان اسلاك الكهرباء الممدودة بين المنازل كثيرة، والموت ستكون نتيجة شبه مؤكدة. الوالد يتراجع الى الخلف وينزل من على السطح، وابقى فترة حتى يهدأ روعه وانزل من ذلك المكان... الفكرة كانت تتكرر وتنجح، ولذا، اذا كان الوالد يريد معاقبتي، فإن اول شيء يعمله هو قفل الباب المؤدي الى سطح المنزل.
العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ