كان بالإمكان الاستغناء عن عقد القمة الرباعية في شرم الشيخ في اعتبار أن النتيجة المتوقعة منها معروفة سلفا. فالنتائج العامة التي أعلنت كانت مجرد تمنيات جرى تداولها مرارا في مناسبات سابقة. والاختراق السياسي الذي راهن عليه رئيس السلطة محمود عباس لم يكن في محله نظرا لتعقيدات المشكلة التي لا تقتصر على الضعف العربي والانقسام الفلسطيني وإنما بسبب عدم استعداد تل أبيب إلى التجاوب مع القرارات الدولية والتفاهمات الثنائية التي وقعت مع الرئيس الراحل ياسر عرفات قبل 15 سنة.
«إسرائيل» أصلا لم تكن منزعجة من الانشطار الفلسطيني الذي وزع السلطة على حكومتين متعارضتين. وهي انتظرت هذه اللحظة للتهرب من المسئوليات والتعامل بمزيد من السلبية مع الحقوق الفلسطينية. والكلام الذي ذكره عباس عن احتمال عودة الحوار السياسي ضمن جدول زمني لا يلقى من حكومة إيهود أولمرت تلك الآذان الصاغية لسماعه. ورئيس الحكومة الإسرائيلي سارع قبل ذهابه إلى شرم الشيخ إلى توجيه ضربات استباقية للطموحات والرغبات والرهانات حين اشترط الاتفاق على مكافحة الإرهاب أساسا لأي تفاهم. وهذا يعني أن أولمرت ربط الحقوق الفلسطينية بسياسة دولية تقوم على استراتيجية تقودها الولايات المتحدة في المنطقة وهي تتلخص في بند واحد يتجاوز تلك المواد المتصلة بموضوع بناء دولة ذات سيادة.
حتى موضوع الإفراج عن الأموال الفلسطينية ربطه أولمرت بمجموعة شروط تؤسس تلك الرقابة (الوصاية) الإسرائيلية على أنشطة السلطة. كذلك جاء موضوع الرغبة في الإفراج عن 250 أسيرا ليشكل خطوة إعلامية تتحرك تحت سقف سياسي إسرائيلي. فأولمرت جاء إلى شرم الشيخ مترددا وبقصد تفخيخ القمة حتى لا تتوصل إلى جدول أعمال يلزم تل أبيب بتقديم ما تعتبره الحكومة تنازلات. وحتى لا يظهر أولمرت بأنه الطرف المشاغب اضطر إلى الإعلان عن إفراج محدود للأموال واطلاق سراح أسرى ينتمون إلى حركة فتح. والقصد من هذه اللعبة كان تطويق القمة والحد من طموحاتها ومنعها من التقدم نحو توضيح مسار إلزامي للتسوية.
الخطاب الذي ألقاه أولمرت في القمة اشتمل على كلمات عامة لا معنى لها، وتضمن بالونات حرارية لتقطيع الوقت وقطع الطريق على احتمال صدور اجتهادات خاصة بشأن التسوية. وكل الوعود التي جاء على ذكرها أولمرت في خطابه كانت أشبه بالرغبات ومشروطة ومحكومة بسقف الانقسام الفلسطيني. فالانقسام وما يتضمنه من احتمال استكمال الاقتتال الداخلي شكّل الهاجس الأساسي وظهر وكأنه هو المجال الحيوي الذي ترغب تل أبيب من السلطة الفلسطينية الغوص فيه.
تلك البالونات الحرارية رد عليها الرئيس المصري حسني مبارك حين أكد وحدة الضفة والقطاع وضرورة عودة الحوار السياسي بين حماس وفتح. والرد جاء ليشير إلى وجود خيارات فلسطينية أخرى غير الحرب الداخلية باسم التحالف ضد الإرهاب.
هذا التضاد الذي ظهر بين الجانب العربي والجانب الإسرائيلي في شرم الشيخ يكشف بوضوح عن تلك المساقة التي لاتزال تفصل بين تل أبيب والرغبة الفلسطينية في السير ضمن جدول زمني للتسوية. فأولمرت في خطابه لا يريد التسوية مع سلطة عباس لانه غير مستعد للتخلي عن احتلال 40 في المئة من أراضي الضفة وتفكيك المستوطنات أو ترحيل المستوطنين. وأولمرت أيضا غير متحمس لعودة الحوار بين حماس وفتح لان مصلحته تقضي بمنع توحيد السلطة وتحقيق المصالحة الوطنية بين الضفة والقطاع.
سياسة القطع الإسرائيلية بين حكومة هنية وحكومة الطوارئ تشكل الآن لب الطموحات الآنية لتل أبيب. بل ان أولمرت يملك رغبة أقوى للتحاور مع سلطة غزة أكثر من سلطة رام الله لان الأخيرة تشكل أساس مشكلة الاحتلال بينما الأولى تخضع للتفاوض واعتبارات ترتيب علاقات تضمن المعابر والحدود الأمنية. والإشارات التي صدرت عن حكومة حماس بشأن الاستعداد للتفاهم كانت أكثر من كافية لتطمين تل أبيب.
رسائل تطمين
أهم الرسائل كانت تلك التي حصلت في اليوم الأول حين مُزقت صور قادة الثورة الفلسطينية وداس الملثمون كوفية ياسر عرفات (أبوعمار). وفي اليوم الثاني أرسلت اشارة تلمح إلى وقف اطلاق الصواريخ والعمليات العسكرية. وفي اليوم الثالث أبدى المعنيون رغبتهم في المساعدة على اطلاق سراح الصحافي البريطاني. وفي اليوم الرابع سُرب ذاك الشريط إلى محطة تلفزيونية لبث صور الجندي الإسرائيلي المعتقل بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاحتجازه.
كل هذه الإشارات التي صدرت عشية قمة شرم الشيخ الرباعية كانت كافية لتوضيح الصورة وترسيم معالم طريق مغاير للتوقعات الايديولوجية المفترضة أو المفتعلة. فالرسائل تجاوزت البلاغة اللغوية في رموزها وهي تشكل نقطة اطمئنان دفعت الكثير من السياسيين والمسئولين الإسرائيليين إلى مطالبة أولمرت والضغط عليه لفتح حوار مع سلطة حماس من دون قطع مع سلطة عباس. وذريعة هذا اللوبي لم تكن بحاجة إلى تفسير وتوضيح فهي استخدمت تلك الإشارات مادة خصبة للتعامل الواقعي مع متغيرات حصلت ميدانيا. وبما أن حماس تملك مفاتيح منصات الصواريخ وأبواب الصحافي البريطاني والجندي الإسرائيلي جاء الضغط على أولمرت ومطالبته بعدم الانحياز إلى فريق والاكتفاء بأخذ جانب الحياد بين حماس وفتح.
الكلمة إذا للميدان وليست للسياسة. والاختلاف الايديولوجي بين طرفين لا يعني عدم استعداد النقيض للتعامل مع المتناقض لإخراج تسوية تكفل مصلحة النقيضين. وعندما يكون الانفتاح على حكومة الطوارئ يعادل الخسارة وتقديم التنازلات والدعم والمعونات في حين الانفتاح على حكومة حماس يحقق مكاسب أمنية ويؤدي إلى هدوء الجبهة والإفراج عن الصحافي والجندي يصبح الاختيار غير قابل للنقاش. فالمصلحة الآنية (الميدانية) تتغلب في الحسابات المباشرة على الايديولوجيا وبالتالي لابد أن تضغط على أولمرت لتعديل سلوكه والسير في منطقة وسطى بين حماس وفتح. وهذا بالضبط ما ظهر في كلمة رئيس الحكومة الإسرائيلي في شرم الشيخ. فأولمرت كان متحفظا في استخدام المفردات ومترددا في تقديم الوعود وغير متحمس على مساعدة الشعب الفلسطيني في حل مشكلاته وإيجاد الحلول التي تتكفل بعودة الحوار والتفاهم بين حماس وفتح.
مصلحة تل أبيب تقضي بفك الارتباط بين الضفة والقطاع. ومصلحتها أيضا أن يستمر الانقسام الفلسطيني ويتطور باتجاهات مختلفة. ومصلحتها تقضي كذلك أن تتحول «إسرائيل» من عدو إلى وسيط يلعب دور الجسر بين حماس وفتح. وكل المخاوف المصطنعة التي صدرت عن تل أبيب وواشنطن بشأن القلق الأمني وانتقال «القاعدة» إلى غزة كان للتضليل. فما حصل في الشارع الفلسطيني لم يُغضب «إسرائيل» بل أعطاها فرصة زمنية للتهرب من الالتزامات والتنصل من المسئوليات وادعاء النزاهة في التعامل على سوية واحدة بين الطرفين (معونات، مساعدات، فتح معابر، وتسهيل معاملات). والنتائج الهزيلة التي ظهرت في شرم الشيخ توضح من دون تزييف أن «إسرائيل» هي المستفيد من ذاك الانقسام الفلسطيني وان المراهن على اقتراب موعد التسوية هو الخاسر الأكبر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1755 - الثلثاء 26 يونيو 2007م الموافق 10 جمادى الآخرة 1428هـ