بينما كنت أعد مقالي الاسبوعي وصلتني رسالة من أخ فاضل من فلسطين المحتلة التي سبق وأن سلطنا الضوء على تدمير الاحتلال الصهيوني للبنية التحتية لبيئتها، وسبق وأن ناقشنا أوضاعها مع إخوة لنا من فلسطين ممن نلتقيهم في المؤتمرات البيئية التي ينجحون في حضورها في ظل سعي الصهاينة الحثيث لمنعهم من ذلك.
المواطن تحسين يقين بدأ رسالته بقوله «لم اتخيل يا خولة أن نقتتل في هذا الصيف في غزة! هنا نعيش تلوثات سياسية أسوأ من ملوثات البيئة». وبعد قراءة مقاله المرفق قررت أن أخصص مساحة مقالي الأسبوعي لنشر أكبر جزء منه لإيماني أن لا أمل لإنقاذ البيئة الفلسطينية مالم توقف الفتنة التي تأكل في فلسطين.
وهذا ما اخترته من مقاله:
«أعادنا إعدام نصب الجندي المجهول في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة علنا في رابعة نهار يوم الأحد 17 يونيو/ حزيران 2007 إلى تذكر حادثة الاعتداء عليه في ليلة مظلمة في شتاء العام 2005 إذ أثبت الذين قاموا بعملية الإعدام أنهم هم من قاموا بالاعتداء عليه في ذلك الشتاء، وقبل ذلك تعرض للتخريب مرتين وأيضا في الانتفاضة، إذ تم استهداف سلاحه المنحوت وتدميره، وكان كلما رممه المختصون يسعى المخربون لممارسات هواياتهم الشيطانية.
لقد شهدت عملية إعدام نصب الجندي المجهول رمز الشهداء الذين سقطوا وهم يدافعون عن شرف فلسطين تمثيلا غادرا بهذا الرمز، إذ لم يكتف معدموه بالإعدام، بل قاموا بربط أجزاء منه وجرها في الشوارع!
في شتاء العام 2005، في صباح 7 ديسمبر/ كانون الأول منه، لطمنا خبر الصباح، حين حملت إلينا الصحافة أن نصب الجندي المجهول تعرض للتفجير بواسطة عبوة ناسفة، فقد حدثت وقتها الجريمة الكبرى الساعة الثانية صباحا، فمن هو هذا الذي يسهر حتى هذه الساعة المتأخرة ليسطو على هذا الجندي الذي قضى وهو يحرسنا؟
فكرة نصب الجندي المجهول أنه لا يحمل ملامح إنسان معين، أو اسم مقاتل أو مجاهد مهما بلغ من الرتب العسكرية، بل هو جندي وحسب، وحسب الجندية من شرف عظيم. وبذلك فهو رمز لكل الذين يقضون في سبيل أوطانهم.
هناك جنود يستشهدون خارج أوطانهم، وبعضهم لا تعود جثثهم، وبعضهم يغرقون أو يحرقون أو تتفجر أجسادهم بفعل المتفجرات والألغام... لذلك جاءت هذه الفكرة السامية: أن يكون تمثال الجندي المجهول تعبيرا عن هؤلاء وغيرهم حتى يتعزى أهل الشهداء.
فالجندي الذي نجهل أين هو بعد استشهاده ستكون لنا فرصة لمشاهدته، فرصة لأهله ومحبيه، من خلال هذا الرمز الذي يجمع كل المقاتلين الشرفاء الشهداء فيه، ويحسون أنه لم يرحل عنهم، وأنه باق بينهم.
فهل يكون جزاء الجنود الذين يقضون في سبيل الوطن، أي في سبيلنا نحن أن نكون جاحدين لهم!
أبسط معاني الوفاء لهم أن نحترم رمزهم... هؤلاء هم الذين حرسونا وضحوا بأنفسهم في سبيل أن نعيش بكرامة، فهل حسن الجزاء أن نقتلهم؟!
إن هذا النصب هو رمز لعشرات آلاف الشهداء الذين قضوا دفاعا عن الوطن والشعب على مدى عقود النضال الوطني الفلسطيني لتثبيت الهوية الوطنية والحقوق الشرعية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وليس في العبارة شعار أو خطاب، بل هو شيء حقيقي، فهل هناك أكثر وضوحا من معنى الشهداء وحضورهم الأبدي في الذاكرة.
إننا أمام جريمة قتل بشعة، أكبر من الجرائم العادية، فهذه جريمة قتل جماعية لفدائيي فلسطين وجنودها المخلصين، فليس من السهل أن تشفى قلوب أبناء شعبنا.
لقد هرب المجرم أمس من القضاء... فهل سيظل مجرمو اليوم طليقين من دون محاكمة؟ أم أن المجرمين سيعينون قضاء يأتمر بأمرهم.
فالذي يتجرأ على الجندي المجهول يتجرأ على الوطن المقدس، يتجرأ على المقدسات التي استشهد أبناء فلسطين من أجلها... يتجرأ على كل معاني الإنسانية والوفاء، ويتجرأ على مشاعر آهالي الشهداء! وعلى مشاعر الجنود الأحياء.
حين تم وضع نصب الجندي المجهول في غزة، قُصد وقتها أن تكون إشارة سبابة يده المرفوعة والممدودة إلى الأمام... إلى القدس، أي الهدف هو تحرير المقدسات، لذلك فإن الرمز بحد ذاته يحمل معان سامية، فقد اعتبر الله سبحانه وتعالى الشهداء أحياء «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون» (آل عمران :169). وقال رسوله الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله»
فهذا الشهيد الحي المكرم الذي لا تمسه النار والمبشر بالجنة هو في مرتبة الصحابة رضوان الله عليهم جميعا هو عظيم لدينا جميعا، نحترمه من كل قلوبنا، ونوقره، ونترحم عليه ونتمنى أن نمتلك الشجاعة كي نسير على دربه!
معلوم أن نصب الجندي المجهول كان قد تأسس العام 1957 أي زمن الإدارة المصرية للقطاع، وأن أول ما صنعته «إسرائيل» دولة الحضارة بعد احتلال غزة العام 1967 أنها دمرت نصب الجندي المجهول حقدا على كل الشهداء الذين دافعوا عن شرف فلسطين من هذه البلاد وغيرها من الدول الشقيقة من الجنود المصريين والأردنيين، الذين رووا أرض فلسطين بدمائهم التي جرت جنبا إلى جنب، بل في قناة واحدة مع الدم الفلسطيني...
رحم الله الشهيد الحي في قلوب أبناء فلسطين والأمة العربية ياسر عرفات معلمنا الذي بث روح المقاومة فينا، الذي فطن أول ما فطن إلى إعادة نصب الجندي المجهول إلى مكانه، فكان أن صمم الجندي وهو يرتدي البذلة العسكرية مشيرا بيده نحو القدس!
في ذلك الشتاء العام 2005، في شتائنا الطويل من غزة إلى بغداد إلى عواصم ومدن وبلدات، ومخيمات، إلى قرى وبواد وفياف وواحات... تزامن مع حادثة الاعتداء على الجندي المجهول حادثة مشابهة في العراق الشقيق، حين نسف قتلة آخرون تمثال أبي جعفر المنصور الواقف على دجلة، الذي كانت جريمته: أنه أسس بغداد.
دمروا الجندي لكن لم يدمروا الرمز الخالد فينا، فلنا أن نقرأ ما كتب على جوانب قاعدة النصب ونشاهد...
لنتلو معا قوله تعالى» ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»...
ولنرسم خريطة الوطن دائما من جديد! ولا يأس يا أصحابنا ورفاقنا، فإن يدا تتجه نحو القدس لا يمكن أن تخيب!».
ينتهي هنا نقلي عن تحسين لأتذكر كيف أن اتفاق حماس - فتح بمكة كان سببا في تمكن وزير البيئة الفلسطيني يوسف أبوصفية من حضور الاجتماع الحاكم للمنتدى البيئي العالمي في فبراير/ شباط من هذا العام، والذي من خلاله تمكنا من تذكير العالم بالبيئة الفلسطينية ومعاناتها تحت الاحتلال، ويبقى الأمل.
إقرأ أيضا لـ "خولة المهندي"العدد 1755 - الثلثاء 26 يونيو 2007م الموافق 10 جمادى الآخرة 1428هـ