ما كنتُ أحب أن تدخل «حماس» في أي انتخابات رئاسية، وكنتُ أتمنى لها أن تبقى حركة مقاومة إسلامية تضرب المثل تلو الآخر على أن «إسرائيل» بكل قواتها تصبح ذليلة أمام حركات المقاومة الجادة، ولكن أمنيتي لم تتحقق وخاضت «حماس» التجربة التي أرادتها، والتي يبدو أنها لم تكن تحسب نهايتها بصورة جيدة.
كنتُ أرجح فوز «حماس» في الانتخابات؛ لأني أعرف أن لها حضورا شعبيا قويا، فالكل يعرف صدقها وتضحياتها ولكن الصدق والتضحية لا يكفيان في ظل ظروف عربية سيئة وظروف دولية أكثر سوءا.
حركة «فتح» - التي تربعت على عرش السلطة سنينَ طويلة - ما كانت تحسب مطلقا أن «حماس» ستفوز عليها ولهذا كانت صدمتها عنيفة وكانت ردة فعلها أشد عنفا ويبدو أن قادتها قرروا إفشال تجربة «حماس» مهما كان الثمن. بعض الدول العربية ما كانت تحسب لـ «حماس» أن تبرز على الساحة، فهي حركة «دينية» ونجاحها - كما يتوقعون - قد يشجع حركاتٍ دينية أخرى على الظهور وهؤلاء لا يحبون لمثل هذه الحركات أن توجد مطلقا؛ لأنهم لا يحبون الدين فقط ولكن لأن هذه الحركة - تحديدا - مرتبطة بالمقاومة ضد اليهود والعداء لأميركا ثم إنها جاءت بانتخابات نزيهة وهذه الأمور كلها مما لا يستساغ عندهم فكان لابد من تحجيم «حماس» بكل الوسائل المعلنة والخفية.
الصهاينة والأميركان وكل من سار على شاكلتهم كانت مواقفهم واضحة ومعلنة فهم ضد «حماس» وضد الديمقراطية التي جاءت بها ولذلك كله كان لابد من خنقها وبأسرع وقت.
ومن سوء حظ «حماس» أنها جاءت في زمن أصبح فيه كل من يقاوم الصهاينة «إرهابيا» فضلا عن أنها مصنفة أصلا على أنها حركة إرهابية، فكل من يتقرب إلى «الأميركان» بدمها ليصبح مقربا إليهم بقدر الدماء التي يقربها.
مضت قرابة السنة على تجربة «حماس». تعرض فيها الشعب الفلسطيني لكل أنواع الاضطهاد والحصار والقتل ولم تظهر أية بادرة جادة لإخراجه من مأزقه لأن الهدف كان واضحا... إسقاط حكومة «حماس» إلى الأبد.
حتى بعد مؤتمر مكة وحكومة المصالحة الوطنية بقي الحصار كما هو واستمر الصهاينة في قتل أبناء فلسطين، وكان لابد للمخطط أن يستمر حتى النهاية.
ما حصل في غزة والضفة لم يكن مفاجئا، ربما التوقيت، وطريقة الإخراج، والنهايات التي تبدو مظلمة، فهذه الأشياء هي التي جاءت متسارعة وعلى غير ما كان يعتقد كثير من المتابعين.
لن أتحدث عن الممارسات المخجلة التي تمت في غزة والضفة ففي حالات الفوضى تصبح سيطرة القادة ضعيفة على أتباعهم، وتصبح الممارسات المخجلة هي سيدة الموقف، وفي التاريخ القديم والحديث شواهدُ أكثر من أن تحصى.
ولكن المؤسف أكثر هو تصرفات القادة التي يصعب تفسيرها. فأبومازن أعلن في خطاب رسمي أن «حماس» عبارة عن قتلة وظلاميين وتكفيريين! وأعجب كيف كان أبومازن يترأس هؤلاء طيلة سنوات وهو يصمت على أفعالهم وعلى أفكارهم! وأعجب كيف لم يكتشفهم طيلة ذلك الوقت وجاء اكتشافه لهم فجأة! «حماس» ليست شخصا أو مجموعة أشخاص، وغالبية الشعب الفلسطيني انتخب «حماس» بحسب برنامجها فهل يصح القول إن كل الذين انتخبوا «حماس» تنطبق عليهم مواصفات الرئيس؟ وباختصار هل كان يترأس هذه المجموعة السيئة وكان سعيدا برئاستها طويلا ثم انقلب عليها فجأة؟ وهل ستتغير مواصفاتها - فجأة أيضا - إذا قبلت به رئيسا؟
ثم حديثه عن مؤامرة قتله بتفاصيلها الدقيقة، أليست مثيرة للعجب؟ لماذا لم يتخذ موقفا حازما منها وفي وقتها؟ هل كان سيعارضه أحد؟ هو الرئيس والمؤامرة واضحة والمجرمون معروفون فلماذا الصمت آنذاك ولماذا الحديث الآن؟
أما دحلان فقد تنازعته «حماس» و «فتح» فهو عند «حماس» مجرم خطط لقتل الكثيرين منهم بل شارك في قتل ياسر عرفات، أما «فتح» فتدعي أن «حماس» أرادت قتله غير مرة ولكن الله سلمه. ومرة أخرى العجب أن كل هذه الاتهامات لم تظهر إلا الآن!
ومن الأمور التي يصعب تفسيرها رفض محمود عباس أي تدخل عربي أو لجنة تحقيق أو حوار مع «حماس» إلا بشروطه التعجيزية التي رفضتها «حماس».
كنتُ أتمنى أن يكون متصلبا مع الصهاينة مثل تصلبه مع «حماس» - ليس أكثر - فالصهاينة محتلون لأرضه، وقد قتلوا من أبناء بلده آلاف الأشخاص ومازالوا يبنون المستوطنات ويقتلون المزيد ومع هذا فهو يتمنى أن يحاوروه مع أنه يعرف بالتأكيد أنه لن يحصل منهم على أي شيء طيلة السنوات الماضية كما أن عرفات لم يحصل هو الآخر على أي شيء فلماذا يقبل منهم كل هذه السيئات ويبذل قصارى جهده للحوار معهم ويرفض الحوار مع «حماس»؟ مهما قال عنها فهي ليست أسوء منهم؟ ألا يثير هذا علاقات استفهام كثيرة؟
أعرف مواقف الصهاينة والأميركان من فلسطين ولكنهم هذه المرة كانوا أشد سوءا وكان الوضع العربي المتردي يعمل لصالحهم. من مصلحة الصهاينة ومن معهم أن يكرسوا الفرقة الفلسطينية ومن مصلحتهم أن تكون فلسطين المحتلة أكثر من دولة - هذا إذا كانت هناك دولة أصلا - لأن كل هذا يصب في مصلحتهم، وها هي الفرصة قد جاءتهم على طبق من ذهب ومن الغباء ألا يستفيدوا منها.
من أول يوم أعلن فيه عباس حكومة الطوارئ انهالت عليه المساعدات من كل اتجاه! كيف رفعت الحصارَ وقتها «إسرائيل» والاتحاد الأوروبي؟ الجميع أعلن دعمهم الكامل لحكومته، والجميع - أيضا - قرروا إعطاءه كل ما يريد!
وفي واشنطن بحضور إيهود أولمرت قرر جورج بوش أنه سيقاوم الإرهاب في غزة وفي غيرها. وكان أولمرت يبتسم وهو يسمع هذه التصريحات.
إذا هناك إرهاب في غزة تمثله «حماس» محكوم عليه بالقتل من قِبل بوش الذي سيقاومه. والعجيب أن بوش لم يُقِم لكل العرب وزنا وهو يقول هذا الكلام وكأن غزة تتبع إليه وحده مع الصهاينة ليفعل بها ما يشاء والأكثر عجبا أنه قال: «غزة وغيرها» والمؤسف أن العرب كانوا صامتين وكأنهم غير معنيين بكل هذه الأقوال! تكريس الفرقة جاء من بعض الدول العربية أيضا. مصر أعلنت أنها ستنقل قنصلها وبعثتها إلى رام الله وكأن غزة ليست من فلسطين، ومصر - أيضا - اتهمت إيران بأنها تدعم «حماس» وهذا يخل بالأمن القومي المصري. ولكن يا ليت مصر دعمت «حماس» وقطعت الطريق على إيران. وقلت أيضا: لماذا هذا الكلام الآن؟
والأردن قال إنه لا يمانع إرسال القوات الفلسطينية إلى رام الله. ولماذا إلى رام الله فقط؟ ولماذا الآن؟ في هذه الظروف الحالكة التي تؤسس للانقسام والاقتتال ثم الحديث عن عقد اجتماع في مصر تحضره «إسرائيل» والأردن وحكومة عباس، وبدأت الوعود تتحدث عن دولة فلسطينية بحسب رؤية بوش، وهذه الوعود يرددها أولمرت ولطالما رددها هو وسواه من دون طائل.
المتوقع أن هذا الاجتماع سيكرس الفرقة ويشجع على الاقتتال وسيعطي أبومازن وعودا كثيرة إذا استطاع أن يقصي «حماس» عن السلطة. في هذه الأجواء يتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مجزرة كبيرة سيقوم بها ضد غزة ليقضي على «حماس» وقواتها والعرب صامتون وأبومازن لم يقل شيئا يذكر!
الوضع في فلسطين لا يحتمل صمت الجامعة العربية، ولا يحتمل صمت الحكومات العربية وشعوبها. وأعتقد أن على الجميع حمل «حماس» و «فتح» على العودة إلى اتفاق مكة، هذا الاتفاق الذي أزعج الصهاينة والأميركان؛ لأنهم كانوا يراهنون على الاقتتال الداخلي الذي سيقضي على «حماس» ولهذا لم يكونوا سعداء به وحاولوا مع بعض الجهات الفلسطينيه إفشاله.
اتفاق مكة ووحدة العرب والبحث عن المصلحة الفلسطينية ربما تنقذ الموقف المتدهور وإلا فالويل للعرب من النتائج السيئة التي أطلت برأسها.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1754 - الإثنين 25 يونيو 2007م الموافق 09 جمادى الآخرة 1428هـ