قضينا ردحا من الزمن نقاوم القول الذي كان يهمس في الظلام: إن بعض الفلسطينيين باعوا أرضهم للوكالة الصهيونية، وذلك ما سبّب نكبتهم الأولى في العام 1948 وخسارة الوطن. لقد كان ذلك في أحسن الأحوال يفسر بجهلهم لو حدث للقلة القليلة. وكان ذلك يعني باطنا أن الفلسطينيين مسئولون عن خسارة وطنهم. وإذا كان ذلك غير صحيح في الماضي، فهو بالتأكيد صحيح اليوم. أي عاقل ومراقب لا يستطيع وهو يشاهد بأم عينيه ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ يقوم فلسطينيون بطرد فلسطينيين آخرين من ديارهم، إلا أن يضع اللوم كله على كاهلهم هذه المرة من دون همس في الظلام، بل بصوت مرتفع، فهم جميعا ركبوا سكة الخطيئة ولغوا في دم بعضهم، ووضعوا ما بقي من فلسطين، بسبب صراعهم على سكة الخسارة النهائية.
كثيرا ما قاسى الفلسطينيون من ظلم الغير، فحلّ بهم ظلم «ذوي القربى» هذه المرة وهو أشد ظلما من كل الظلمات. وليس المقام هنا البحث فيمن أخطأ ومن أصاب، أهي «فتح» أم «حماس»؟ في نظري الاثنان مدانان. لقد تفرغوا للصراع على السلطة فيما بينهم. وأيا كانت أشكال الصراع، وتحت أية شعارات مختلفة تم الخوض فيها، فقد فرطوا جميعا بالقضية الضحية. ولا يجب أن يسألوا بعد اليوم أو في المستقبل غيرهم عمّن كَفَّنَ القضية وأهال على جبهتها التراب. فهم جميعهم ملامون لا غيرهم بل مدانون.
ينقل صديق عرف المرحوم ياسر عرفات جيدا قوله بعد أن عاد إلى بعض فلسطين أنه سأل إسحق رابين: «لماذا أنشأت 64 تنظيما لعرقلتي؟»، فرد رابين، كما قال الصديق المطلع: «السيد شيرمن (عرفات) إنهم خمسة وستون على وجه الضبط!».
لا يوجد صراع في التاريخ استسلم فيه طرف من الصراع لقيم مثلى، فالعدو يحاول بكل طريقة ممكنة أن يعرقل خطط عدوه. في الأراضي الفلسطينية المحتلة ربما الآلاف من المتعاونين مع «إسرائيل»، إما خلقتهم «إسرائيل» وإما خلقهم طموحهم، ولم يكن بالمستطاع ولا الممكن أن يقتلوا جميعا فلا يؤخذ الناس بالتهم قبل ظهور أدلة الإدانة.
أما «فتح» و «حماس» فإن تهمة «الخيانة» جاهزة لبعضهما بعضا، وهي أبسط ما ألصق الطرفان ببعضهما على رؤوس الأشهاد.
«فتح» و «حماس» مثل غيرهما من القوى العربية لديهما عمى ألوان لا يفرق بين «الخيانة» والرأي والاجتهاد السياسي للآخر. ومادام هذا الخلط العبثي متوافرا فإن أي متفائل بتقدم القضية الفلسطينية قيد أنملة، كالمتفائل بحلول رمضان في صَفَر! والسؤال: خيانة من؟ إذا كان المقصود بخيانة القضية فالجميع له يد في ذلك بعد التطورات الأخيرة؛ لأن الخيانة ليست تمرير بعض المعلومات للعدو، ذلك أدنى درجات الخيانة، وممكنة في كل الصراعات ولها طرق معروفة تزخر بها كتب الصراعات المختلفة، كما لها طرق مكافحة. أما الخيانة الأكبر فهي ضياع القضية برمتها بسبب النزاع العبثي على السلطة الموعودة، والذي نراه واضحا وضوح الشمس.
لا تستطيع «حماس» أن تبقى كبيرة في غزة وإن حكمتها، مهما رفعت من شعارات، فهي تخلق في أحسن الأحوال «جيتو» غير قابل للحياة. ولا تستطيع السلطة في الضفة الغربية أن تنتزع من «إسرائيل» ماء الحياة في حده الأدنى. الاثنان يعيشان تحت وهم كبير. «حماس» تحت وهم إقامة الدولة الإسلامية التي يبدو أن نواتها كما يقال غزة، و «فتح» في وهم إقامة دولة فلسطين على بقية من أرض ضيقة.
أفضل وضع إيجابي يمكن أن يحلم به الإسرائيليون المتشددون اليوم هو الوضع القائم الذي هيأه الفلسطينيون بوعي وسابق إصرار.
لا يبدو في الأفق أي توافق عقلاني بين طرفي الصراع في فلسطين، كما لا يبدو أن هناك توافقا ممكنا بين أطراف الصراع اللبناني أو العراقي أيضا. المنطقة في سيرورة تشرذم عنوانها مكتوب على الجدران. والعرب، إن كان ثمة إرادة تسمى بتلك التسمية، غير قادرين على فعل شيء ولو القليل. انظروا إلى مهمات عمرو موسى في لبنان، ومهمات الفريق الأمني المصري في غزة، تصل إليكم الصورة واضحة من غير تعتيم، إنه دوران في المكان.
إلا أن السؤال: لماذا وصل الفلسطينيون إلى هذه الحال المزرية من التشرذم والفشل؟ ابحثوا عن الإجابة في الفكر المطروح، وهو فكر في أغلبه لا ينتمي إلى العصر وبعيد عن العقل، هو فكر حالم بالماضي وهائم في ملكوت السماء، لا يريد أن يتعرف إلى المتغيرات الإقليمية والدولية، يشبع الجوعان شعاراتٍ ولكن تلك الشعارات لا تهضم؛ لأنها مكونة من هواء لا غير.
لا أعتقد أن اجتماع محمود عباس مع رئيس وزراء «إسرائيل» إيهود أولمرت في شرم الشيخ أو غيره من الأماكن يمكن أن يأتي بنتيجة، مهما كان الشهود على ذلك الاجتماع. فلم يحدث أي تقدم في اللقاءات السابقة التي نسي بعضنا عدها، والأمور وقتها أقل حرجا ممّا هي اليوم، فما بالك إذا كان الانشقاق الفلسطيني لا يمكن رتقه والإخوة يخوضون في الدم والشتائم. كاتب هذه السطور أشار في المكان نفسه وبعد اتفاق مكة بين «فتح» و «حماس» بأيام قليلة إلى أن ذلك الاتفاق مؤقت وهش، لا لأن هناك قراءة مستقبلية قد جاد بها ملاك من السماء؛ بل لأن قراءة المتغيرات على الأرض وفحص الخلفيات والطموحات للقيادات المختلفة ومسيرة الاتفاقات السابقة وعوامل التأثير الخارجية في الأطراف المشكِّلة للاتفاق كانت كلها تدل - من دون ضرب في الغيب - على أن ذلك الاتفاق لن يصمد، وهكذا كان. واليوم لن يجد الفلسطينيون مخرجا غير الاقتتال المباشر وغير المباشر فيما بينهم، فلم يتعودوا لا هم (بكل تسمياتهم) ولا في ثقافتهم السياسية شيئا اسمه (التوحد من أجل الوطن مع قبول التعددية)، ذلك موقف يحتاج إلى قياداتٍ من نوع آخر وثقافةٍ أخرى، الأمر الذي فعلته قبلهم شعوبٌ كثيرةٌ في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
هذا اجتهاد فكري في «الموانع» لا أدعي أني اكتشفته، فقد ألمح إليه عبدالرحمن بن خلدون قبل أكثر من 600 عام وهو «الشقاق» العبثي بين القبائل المتناحرة التي لم يتبلور مفهوم الوطن في أذهان أفرادها بعدُ، والمشكك يستطيع أن يطيل النظر في الأعلام المرفوعة في غزة، بدل علم الوطن بعلم القبيلة الحماسية. ومازلنا نبحث في «الخونة والخيانة»! وقاكم الله شرهما.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1754 - الإثنين 25 يونيو 2007م الموافق 09 جمادى الآخرة 1428هـ