يحتفل العالم اليوم بـ «اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب»، وبما أن لدينا خيرا وفيرا، فلابد من توجيه تحية إلى من «ضحوا من أجلكم لكي تعيشوا بكرامة» كما في شعار المنصة الرئيسية في ورشة «العدالة الانتقالية».
وبما أن وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي كانت على عجل في ورشة «الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية»، فألقت كلمتها وغادرت من دون أن تشرب الشاي، فمن الواجب علينا كصحافة، أن ننقل إليها ما فاتها من لقطات «إنسانية» رقيقة، بعيدا عن «التسييس».
المشهد الأول لشابة محرقية رقيقة اسمها فاطمة بونفور، تخرّجت من الثانوية أخيرا وتنوي دراسة الأدب الإنجليزي بجامعة البحرين. بدأت الفتاة التحدّث بمنتهى الثقة والاعتزاز بالنفس عن جدّها لأمها محمد بونفور ( قومي ناصري)، تقول: «كان جدّي من المناضلين الذين استشهدوا من أجل حقوق الناس. وهو منذ صغره كان يريد مساعدة الناس ولا يحب أن يرى مظلوما في البلد. وفي ليلة استشهاده (في 2 يوليو/ تموز 1973) ودّع جدتي وتركها مع ثلاث بنات... وهي حتى الآن مازالت تؤمن بأنه سيعود يوما ما».
المشهد الثاني لفتاةٍ أخرى اسمها فاطمة علي، لا تعرف من لهجتها هل هي منامية أم رفاعية أم محرقية، فلهجتها بحرينية عامة، ولكن الجانب الإنساني في قضيتها فاقعٌ إلى درجةٍ لا يمكن أن تتهمها الوزيرة بالتسييس. اتجهت الفتاة إلى منصة المتحدثين للبوح بمشكلة «البدون»، وكانت تغالب دموعها وتتعثر في كلماتها، وأمها إلى جانبها تشد أزرها، تقول: «قدّم والدي طلبا للحصول على جواز قبل 13 عاما، وفي العام 2001 أعطيت لأعمامي جوازات واستثني والدي، ونواجه في العائلة مشكلات كثيرة، أهمها عندما أتخرّج العام المقبل إذ ستكون أبواب الدراسة الجامعية مغلقة أمامي فأنا متفوقة ومعدلي 95، وأشعر أن مستقبلي سيضيع». بعدها غلبتها الدموع فأكملت أمها: «عندي أربعة أولاد أكبرهم فاطمة. زوجي عاطل وراتبي وصل إلى 200 دينار بعد 7 سنوات من العمل في إحدى المدارس، وأدفع 100 دينار للإيجار، فهل تكفي 100 دينار للمعيشة وتدريس الأبناء؟ حتى في المركز الصحي ندفع ثلاثة دنانير عندما يمرض أحدنا. تكلّمت مرارا في الإذاعة ولكن لم أجد حلا».
الورشة كما هو واضح لم تكن كلها سياسة، فقد شاركت فيها جمعيات حقوقية ولجان شعبية عدة (المنفيين، البدون، وضحايا التعذيب) وإن كانت غالبية الشكاوى من ضحايا السياسة، التي كانت موضوعا محرّما خلال ثلاثين عاما من الاستقلال. في السابق لم تكن الحكومة تحبّ من يتدخل في السياسة أو يطرح وجهة نظر لا تعجبها، أما الآن فإنها ترحّب بـ «الانشغال بالسياسة» ولكنها تكره «التسييس»، وكأننا نعيش في المريخ وليس في بلدٍ تختلط فيه السياسة مع خبز الناس وعرقهم ومعاناتهم كل يوم.
الورشة كشفت عن شطرٍ صغيرٍ من جبل المعاناة، فهناك حالاتٌ إنسانيةٌ نازفةٌ تنتظر الإنصاف والمداواة، وتأتي الأطروحات الرسمية الأخيرة لتشيع الإحباط ومشاعر الغبن في النفوس، وتعطي انطباعا أن من المستحيل إنصاف المظلومين في هذا البلد.
إن من المهين حقا أن نتكلّم عن تجاوز ملف الماضي، من دون أن نعترف بمعاناة سبعة آلاف مواطن متضرّر ضررا مباشرا من تطبيق «قانون أمن الدولة» خلال ثلاثين عاما. فالعدل والإنصاف والحقيقة والشرع الإسلامي وشرعة حقوق الإنسان... كلها تستدعي تصحيح الموقف المناهض لروح الإصلاح. ومن المعيب حقا أن يحتفل العالم باليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب اليوم، على حين تستشهد الوزيرة البلوشي بالآية القرآنية «خُذِ الْعَفْوَ» (الأعراف: 199) لدمغ آلاف المواطنين الشرفاء بالمجرمين، وكأن البشر في هذه البقعة من العالم الإسلامي مجموعة من قطاع الطرق أو المشركين في شعاب مكة.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1754 - الإثنين 25 يونيو 2007م الموافق 09 جمادى الآخرة 1428هـ