العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ

الوجه المخيف للغضب

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

وقعتُ هذه الأيام تحت تأثير وبراثين مشهد لصورة شاب غاضب نشرت في صحيفة «الوسط» الجمعة 22 يونيو/ حزيران، يصرخ فيها محتدا رافعا سبابته بتوعد كرد فعل على ما يبدو على حديث النائب البرلماني والأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية الشيخ علي سلمان أثناء لقائه الجماهيري المفتوح الذي عقده مع الأهالي بشأن استقطاع 1 في المئة في المئة من رواتب الموظفين لصالح صندوق التعطل المقترح من قبل وزارة العمل (الاستقطاع بالمناسبة يستثني منه العاملين في وزارة الدفاع والداخلية فضلا عن نواب سلطة التشريع في المجلسين والبلديات)، كذلك تحت وقع تصريحين أحدهما لوزيرة التنمية الاجتماعية «فاطمة البلوشي» للصحيفة ذاتها، حينما ذكرت: «لا داعي لوجود هيئة مصالحة وطنية»، ولا إلى استيراد مسميات خارجية ونقل تجارب دول أخرى، على اعتبار أن البحرين تمتلك مشروع إصلاح فاق تجارب الكثير من الدول وأنجز أكثر مما أنجزته أية دولة أخرى في هذا المجال، إذ تم التوافق على الميثاق الوطني، ومن ثم إلغاء قانون أمن الدولة وإصدار قانون العفو الشامل. فالمصالحة برأيها قد تمت وطويت صفحة الماضي بإغلاق جميع الملفات وتبييض السجون، وإن الملفات إن فتحت فلن تغلق أبدا، وستدخل المملكة في دوامة كبيرة!

أما التصريح الآخر فكان للنائب الثاني لرئيس مجلس النواب ورئيس الهيئة الاستشارية لجمعية المنبر الوطني الإسلامي «صلاح علي» لصحيفة محلية 2 يونيو، حينما قال: «إن غلق ملف الماضي سيحافظ على اللحمة الوطنية ممن يحاول العبث بها ويريد فتح جراحات يصعب غلقها، وتُدخل البلاد في متاهات نحن في غنى عنها، مطالبا الجميع بتناسي الجراحات من أجل مصلحة البلاد العليا والانطلاق إلى الأمام، وحفاظا على أمن واستقرار المملكة، وحتى تتعايش الأجيال المقبلة مع بعضها بعضا بعيدا عن أية ضغائن وأحقاد من أجل رفعة هذا الوطن»، وأكد أن المصالحة الوطنية قد تحققت فعلا»، مضيفا أن المشروع الوطني جاء من منطلق وطني خالص، وحرصا على التطور والتقدم بالمملكة، بعيدا عن أي إملاءات خارجية وأن البحرين قيادة وشعبا لن تسمح للأجنبي مهما تكن جنسيته بالتدخل في شئون البلاد الداخلية»، مطالبا «القواعد الشعبية بالالتحام بقياداتها لمزيد من التقدم والرقي للبحرين».

المجتمع حيوان غامض

لسنا في وارد اتباع منهج التحليل السياسي أو الحقوقي ولا حتى الاقتصادي لمقاربة الصورة والتصريحات، وبالتالي الجدال في صحة مضامينهما أو تفنيد ما سبق، فذلك ركناه لأهل الاختصاص والخبراء، ولأنه ليس إزاء المواطن مع هكذا مواقف غير وزن الكلمات، وكبح ردود الأفعال غير الحذرة، إلا أنه ثمة ما لا يمنع أيا منا من أن يفضي لأحدهم جانبا بالأفكار التي تراوده، والتي قلما تقال، «فهناك ضغط طبيعي يكمن وراء الكلام المكبوت» ذلك ما يسر به لنا العالم الاجتماعي «جميس سكوت» في مؤلفه «المقاومة بالحيلة - دار الساقي»، إذ يشير إلى قول صدر في الـ 1990 لأحدهم يدعى «فاكلاف هافل» ويدور في فلك الأفكار التي ربما تراود المواطن، وهو: «المجتمع حيوان غامض جدا، مكتنف بالأسرار، له وجوه وإمكانات مخيفة كثيرة... ومن قصر النظر البالغ أن نعتقد أن الوجه الذي يفرضه لك في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح الوحيد، لا أحد منّا يعرف جميع الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكان»،! وفي متن الكتاب ينقل عبر سياق معالجته درسا لمفهوم «ممارسة السلطة» كما درسها «جورج أورويل» الذي تبين في دراسته لـ «إطلاق النار على فيل»، والحكاية بالمناسبة طريفة وتحمل بعدا وقربا في مدار الصورة والتصريحان الواردان أعلاه، فما الذي يسوغه «جميس سكوت» للقارئ بسرده حكاية «جورج أورويل»؟

إطلاق النار على فيل

خلاصة الحكاية: «تحدث أورويل عن أيام عمله في الشرطة أثناء إقامته في بورما المستعمرة، ذات يوم طلب منه أن يتعامل مع فيل فقد خرطومه ذات يوم حار وهاجم البازار. أخيرا حين تمكن أورويل، وبندقية صيد الفيلة في يده، من تحديد موقع الفيل، الذي كان قد قتل شخصا فعلا، وجده يتمشى بكل هدوء وسط حقل خال من الناس، بحيث إنه كان من الواضح أنه لم يعد يشكل تهديدا لأحد. كان التصرف المنطقي لحظتها يقوم على رصد الفيل لفترة من الوقت للتأكد من أن هيجانه قد انتهى، بيد أن ما كان ينسف المنطق بالنسبة إلى أورويل أنه كان يقوم في واقع لم يكن وحده الآن، كان ثمة نحو مئتين من سكان البلد قد لحقوا به وراحوا يراقبونه. فجأة أدرك أن عليه قتل الفيل بعد كل شيء، كان الناس يتوقعون هذا منّي، هكذا قال. وإن كان عليّ أن أفعله، كان بمقدوري أن أشعر بمئتي إرادة تضغط علي وتدفعني إلى الأمام من دون مقاومة منّي، وفي تلك اللحظة بالذات، شعرت بلا جدوى من سيطرة الإنسان الأبيض على الشرق.

كنت أنا هناك، رجل أبيض في يديه بندقية، واقفا في مواجهة جمهور غير مسلح من أهل البلاد - ظاهريا، كنت صاحب الدور الرئيسي في المسرحية، لكني في الحقيقة لم أكن أكثر من دمية خرقاء تدفعها رغبة أولئك من أصحاب الوجوه الصفراء. وفي تلك اللحظة فهمت - والسرد لجورج أورويل - أن الرجل الأبيض حين يتحول إلى طاغية، يكون قد عمل على تدمير حريته الخاصة بنفسه. فيصبح أشبه بدمية رخوة، يصبح مجرد شكل شيد ومتوافق عليه، وذلك لأن وضعية دوره وشروطه، هي التي تفرض عليه أن ينفق كل وقته في محاولة التأثير على (السكان الأصليين)، وعلى هذا النحو يصبح عليه أن يتصرّف على الشكل الذي يتوقعه منه (السكان الأصليون)، كلما طرأت أزمة جديدة، يرتدي قناعا، فإذا بوجهه ينمو وينمو حتى يلائم القناع، إن على السيد أن يتصرف كسيد، عليه أن يبدو حازما، وأن يعرف كل ما يجول في رأسه، وأن يحدد الأمور تحديدا قاطعا. أن أعبر كل تلك الطريق والبندقية في يدي، ومئتا شخص يسيرون ورائي، ثم لا أفعل شيئا بل ابتعد هكذا - أمر مستحيل كل الاستحالة. فلو فعلت سيضحك الجمهور منّي ويسخر، وعند ذلك فإن حياتي كلها، حياة كل شخص أبيض في الشرق، ستكون عرضة لصراع لا يعود بإمكانه أن يثير ضحك أحد»!

صرخات الغضب الغريزية

ولكوننا نحترم فطنة القارئ وتقديراته أثناء قراءة النصوص وتحليل الحوادث، بل وفي كيفية تصريفه للأمور ورسمه لعلاقة الأضداد، فضلا عن كشفه لأقنعة الخطاب الرسمي ونواياه وغموضه في بعض الأحيان، فلن نتدخل في تفاصيل مقارباته ولا اتجاهاتها، إلا بمقدار الإشارة لعبارات قد تستحضرها المواقف في أذهاننا الجمعية في لحظة ما، ولا تقوى على مغادرة أوكارها في سياقات ما أوردناه، عبارات كمثل: السلطة، الهيمنة، الخضوع، المقاومة، الاحتجاج، الظلم والخوف والإهانة والإذلال والازدراء، العبيد والأسياد... إلخ، إذ في كل الأحوال والأوضاع ستخضع جميع العبارات لعلاقة الأطراف ومعاييرهم ومقاييسهم وأمزجتهم ومصالحهم وخلفياتهم ومراجعهم بل ومعاناتهم، وسيبقى المواطنون الأقنان إن جاز التعبير وبحسب توصيف «جميس سكوت»: «لا يتجاسرون عادة على مقاومة أحكام رضوخهم علنا، إلا أنهم على ما يحتمل ينشئون سرا مجالا اجتماعيا يمكن أن يعلنوا فيه معارضتهم خارج المسرح الرسمي القائم على علاقات القوة، وأن يدافعوا عنه بتوريات لغوية ورموز طقوسية ساخرة أو ضمنية أو مخبأة، وفي المجال الاجتماعي أو المحتوى المحدد لمعارضتهم، أن يتوقع عودة نبي، أو الاحتفال بأبطال شهداء المقاومة وما إلى ذلك، فجميع تلك العبارات ستتبلور بشكل ما في صرخات غضب غريزية «كما فعل الشاب بسبابته» في تعبير تصويري، فما بالنا بصرخات الغضب الأخرى المحبوسة بانتظار يوم الثأر لفقدان عزيز أو الانتصار إزاء أكثر الأوقات خطورة في المجالات الإنسانية التي قد يأخذ الغضب فيها ممرات لنفسه لمغادرة القمقم، ما يجعل الخيار الأسلم هو إظهار شجاعة المحاربين الذين يتصرفون كشجعان في ميدان المعارك، هو تحكيم «العقل»، وإظهار الاحترام للمواطنين وآرائهم وشكواهم، واحترام القوانين، ذلك قبل أن تطرأ أزمة جديدة تنمو وراءها أقنعة جديدة تنذر بقطع الطريق على الجميع من أن يتنفس الصعداء، وقبل أن تهدد بتدمير مظاهر الحياة الكريمة!

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً