لفتني توصيف (متجاسر) للرئيس العراقي جلال طالباني في ثنايا مقابلة صحافية له مع «الديلي تليغراف» البريطانية أجريت معه في الثامن من مايو/ أيار الماضي إذ قال فيها بالحرف الواحد إن «ثمة تغيير كبير في عقلية العرب السنة (في العراق) فقد أصبحوا الآن ينظرون إلى إيران باعتبارها الخطر وليس الولايات المتحدة الأميركية»! وإذا ما صحّ هذا الافتراض أو هذا التوصيف من الرجل وهو على قمّة الهرم السياسي فإن الأمور (على الأقل) تحتاج إلى نظر وقراءة من نوع آخر، على رغم أنني أعتقد بأن ما قاله طالباني ليس في مطلقه صحيحا وإلاّ فإن الرّزيّة أعظم وأدهى، فمن يملك ناصية الأمور في العراق وفوق ما أفرزته خريطة الشطرنج الطائفية ليس الشيعة ولا السُنّة؛ وإنما هم أربعة لا غير (1) الاحتلال الأميركي (2) السياسيون العُملاء (3) المقاومة الشريفة (4) القتلة من أراذل الخلق، مع ثبات مُكعبات الصورة الأساسية التي بها تتمثّل الملامح الكاشفة لما تحت الجلد، من دون إغفال النسبية المتبدلة فيها طبقا للديناميكية الحادة التي باتت ترتكز عليها، وبالتالي فإن حديث الطالباني قد لا يعكس الحقيقة، لكنه قد يُؤسس لمدخلية محورية تتعلق بالتعرض لأكثر الموضوعات حساسية في العلاقات الدولية والإقليمية بعد احتلال العراق ضمن أقاليم مُحددة وذات مصالح استراتيجية ثبّتتها الجغرافية وباركها التاريخ، وهي العلاقة ما بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجوارها العربي من الشمال وحتى جنوب الخليج وانتهاء بطنجة في الغرب، وما سبّبه ذلك الاحتلال من ارتباك غير مفهوم تداخل فيه الحسّ الطائفي وضرورات الأمن القومي، من دون النظر إلى أرواح الملايين من شعوب هذه المنطقة وهي مُعلّقة بطرف خيط.
وربما ذكّرني حديث طالباني (على رغم جسارته على الخيال) بحديث آخر لصحافي عربي (صديق) أجرى لقاء مع أحد قيادات هيئة علماء المسلمين البارزين وكيف أنه تفاجأ من حجم « البغض» الذي يكنّه هذا القيادي تجاه إيران، بل إنه قد أفصح عن أمنيته أن يرى اللحظة التي تأتي لزوال نظام « الملالي « في طهران حسب تعبيره وبأي وسيلة كانت! الغريب في واقع الصراع اليوم والذي هو أشبه بالطلسم هو أن الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني والمعارضة الإيرانية وبعض القوميين العرب والشوفينيين وآخرين من رجال الدين يتّحدون في مركز معاداتهم لإيران، من دون أن تجمع بعضهم مع البعض الآخر آيديولوجيا أو تكتيك.
والأغرب أن هذا العداء ماضٍ ككرة الثلج وبصورة أشد عن تلك المساحة التي كان يلعب فيها إبّان الحرب العراقية الإيرانية، والتي لم تتحوّل على رغم دمويتها إلى حرب عربية / فارسية، بل إن تلك الفترة لم تشهد اصطفافا بالحجم الذي نراه اليوم، والذي بات يُنظّر له بعض المبدعين في الطائفية ومشروعات الفرقة الذين أخذوا يبتكرون مصطلحات خطيرة كتلك التي شاعت أيام الأنظمة الآبارتهايدية وثقافة البانتوستان، فبتنا نسمع عن الصفوية والفارسية والكسروية والمجوسية في زمن يسير نحو سكّة أخرى من الممارسة الإنسانية، ونسيج جديد من علاقات الشعوب وسط توحّش الرأسمالية ومجاميع اليمين المحافظ والشركات المتعددة للجنسيات.
إن ما يُؤسف له من كل ذلك (والذي على الجميع أن يفهمه) هو أن العراق ليس القيمة الأجدر بأن تقاس به الأمور أو تنقلب فيه المواقف بقدر ما يحتاج إلى تحييد أكبر مساحة ممكنة من العلاقات المتأزّمة القائمة على الاحتراب، لأن الثيمات الحقيقية لأزمته الحالية هي مُركّبة ومُعقّدة ومتداخلة إلى الحد الذي لا يُمكن تفسير الوقائع فيها بصورة مضطردة ومجرّدة وبذات الوتيرة، لأن السياسات العاملة على أرضه لها جذور إقليمية ودولية تتقاتل على مشروعات ومصالح أخرى كل يؤثّر فيها على الآخر ومن دون تمييز أو رحمة، وإذا كان ولابد من إعادة تفسير العلاقات القائمة بين الدول المتجاورة أو المتشاطئة فلا يمكن أن يُقرأ من دون الاعتماد على التاريخ المنظور والقواسم المشتركة والصلات المتبلورة على مر السنين، أو على الأقل القائمة على ذاكرة ولو قريبة يُمكن أن تُشكل مدخلا لتقييم حالة سياسية قائمة، فإيران التي بدأت وشيجتها مع العالم العربي منذ الفتح الإسلامي كان لها موقف واضح من الاحتلال الأنغلوساكسوني للعراق على رغم كل دعايات التشكيك، بعكس الدول العربية التي لم تكن سوى على أحد شاكلتين: متواطئة أو متغاضية، والغريب أن هذه الدول اليوم هي من يقوم بدور الناعي والموّال لما يجري على أرض الرافدين، من مآس، لذلك فإنني لا أملك أدنى تفسير أو معرفة بكنه العلاقة العضوية (الطارئة) والقائمة بين القوى ذاتها التي حملت وتحمل شعارات مناهضة الاستعمار مع الدول المتورّطة تاريخيا معه، بل إن تلك القوى باتت أكثر إيغالا في اللامعنى السياسي حين أخذت تنظر لهذه الأنظمة التي كانت تُسمّيها لائكية أو قمعية على أنها الجبهات الحقيقية والمدماك الرئيسي لحركتها النضالية والتحررية، وتقدّم لها من التسويغات والتبريرات والشرعية ما يكفي لأي إجراءات كانت في السابق تُنعت على أنها رجعية واليوم لا تستأهل منها سوى هزة كتف! لذلك فلا يُمكن تفسير ذلك التماهي والاتساق في التوجهات الإقليمية وبالأخص فيما يتعلق بالعلاقة مع طهران بين تلك الجماعات وبين الأنظمة إلاّ من ذلك المدخل البائس.
ولأن العراق (وكما قلت) يعيش زحاف راديكالي، فإن الحوادث فيه تسير وفق البوصلة الخطيرة لذلك الزحاف، فالمشهد العملي للتحالفات الأميركية القائمة في الداخل العراقي هي بالتأكيد مع أطراف (سياسية) شيعية بشكل طارئ ومع أطراف كردية بشكل تقليدي، ويبدو أن أطرافا (سياسية) سُنّية ستُكمل زوايا مثلث التحالفات المذكور بعد زيارة طارق الهاشمي الأخيرة إلى واشنطن والمطالبات الصريحة للرئيس بوش ولوزير الدفاع الأميركي غيتس إذ دعيا حكومة المالكي المُترهّلة بضرورة إشراك (العرب السُنّة) في العراق على حدّ قولهما، وقيام الإدارة الأميركية بتسليح العشائر في الأنبار بعنوان محاربة تنظيم القاعدة « وهي كلمة حق يُراد بها باطل « يجب أن تتحسّب له الأحزاب السُنّية التي قد تُجَر إلى حيث المصيدة الأميركية التي تتزيّن بإنصافهم في الحكم الجديد وحمايتهم من غول التوحّش الشيعي والخطر الإيراني الداهم. ولكي لا يُساء الفهم من البعض أودّ أن أشير إلى أن الكثير من القيادات الشيعية في داخل العراق وخارجه كانوا على الدوام يدعون (وما زالوا) الائتلاف العراقي الموحّد بأن يكون أكثر عدلا مع الطوائف كافة في العراق، وأن لا يستأسد بغالبيته في المجلس النيابي أو في الديمغرافيا ضد الطوائف الأخرى، والكثير يعلم أن الائتلاف قد أخطأ في تكتيكه السياسي فيما يتعلق باللعبة الداخلية وفي علاقته مع الإدارة الأميركية، ولم يستجب لتلك الدعوات الأمر الذي سبّب خللا غير عادي في شكل الدولة العراقية الناشئة، ومازالت المؤاخذات قائمة عليه وهي كلمة قلتها شخصيا للسيد عبد العزيز الحكيم (عافاه الله) في أحد اللقاءات الصحافية؛ وبالتالي فإنني أضع النقاط على الحروف هنا فيما يتعلق بأصل الحديث لكي تتضح الأمور جيدا ويكون المشهد واضحا ... إلاّ أن غاية الموضوع ومنتهاه ولكي نمسك الخيط من جديد هو أن تعي الأحزاب السُنيّة حقيقة الانتصار الأميركي لها في هذه المرحلة، وكيف أن الأميركي يدفع باتجاه طأفنة المنطقة بدءا من العراق وانتهاء بلبنان، وجرها من حيث لا تحتسب نحو معركة طائفية مفتوحة مع طهران بالضبط كما هي المسطرة الممتدة والمتنافرة من الشوفينيين والقوميين والأميركيين وغيرهم لإضعاف الجميع. إن العلاقات الإقليمية بين الدول الصديقة والمحافظة على حماية أصولها هو من أوجب الواجبات ونحن في مرحلة حرجة من التاريخ الذي سيُسجّل لنا فيها أصعب الأيام والسنوات .
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ