في ورشة «الحقيقة والإنصاف والمصالحة الوطنية» التي عُقدت السبت الماضي، لم يُفاجأ الحضور من كلمة وزيرة التنمية الاجتماعية فاطمة البلوشي، فقد كانت صدى للطرح الرسمي التقليدي، الذي يثبت تهمة المحامية جليلة السيد، وغيرها كثيرون، للحكومة بالتنصّل من مسئولياتها تجاه الضحايا.
هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية، فقد ألقت الوزيرة كلمة الحكومة (كما قالت)، وانسحبت مع بدء أعمال الورشة. طبعا لم يتوقع أحدٌ أن تبقى حتى الخامسة مساء، ولكن كان من المتوقع أن يبقى من يمثّل وزارتها التي تشرف على شئون المجتمع والجمعيات السياسية والأهلية. البعض اعتبر الانسحاب استهانة بجهود مؤسسات المجتمع المدني (إذ يشارك في الورشة 11 جمعية وهيئة أهلية)، فيما اعتبرها آخرون هروبا من مواجهة استحقاقات كبرى.
بعد انسحاب الوزيرة، ألقى المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة «هيومان رايتس ووتش» جو ستورك كلمة مقتضبة، بدا فيها متحفظا، وقال إن البحرين مثل كتاب من عدة فصول، كُتب بعضها وبعضها لم يكتب بعد، وتمنى أن تكون الورشة بداية لكتابة تلك الفصول. وأشار إلى أن المصالحة لا تنظر إلى الخلف بل تتطلع للمستقبل. وذكّر بزميله المغربي الراحل إدريس بن زكري، الذي غيّبته حكومته سنوات وراء القضبان، ولكنه خرج ليشارك في عملية «المصالحة الوطنية» هناك. وقال ستورك: «إنني أؤمن بأن روحه ستكون معنا اليوم».
بعدها، بدأ تقديم عددٍ من شهادات المتضرّرين، وهم طيفٌ واسعٌ من المواطنين، من تيارات يسارية وقومية وإسلامية، على امتداد ثلاثين عاما، لكل منهم مأساة طويلة عليه أن يختزلها في عشر دقائق. أحمد مكي تكلم عن اعتقاله الساعة 3.30 من فجر 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1976 وبقي سجينا عدة سنوات رغم الحكم ببراءته. علوي سيد هاشم العاجز عن النطق تحدّث عن مأساته ابن اخيه. إيمان شويطر تحدّثت عن زوجها هاشم العلوي الذي استشهد بعد شهر من اعتقاله وهي حامل، واستهجنت تصريح أحد نواب المنبر الإسلامي بأن فتح ملف الضحايا سيسبب فتنة في البلد!
عباس عواجي سجّل أن أول ضحايا «أمن الدولة» هم من «الشعبية» و«التحرير»، وأن الخطوة الجريئة بتجاوز ذلك القانون لم تتبعه خطوة جريئة أخرى بتصفية آثاره (النفسية)، آملا أن تكون الورشة بداية لرفع مظالم آلاف من أبناء شعب البحرين.
كل هذا الكلام قد يكون سياسيا، والحكومة لا تحب السياسة ولا السياسيين وتكره «التسييس»، لكن هناك منظرا تمنّيت لو بقيت الوزيرة لتشاهده بعينيها لأنه كان مفاجأة... حين خرج من الصفّ الأخير طفلٌ أشقر في الثالثة عشرة من عمره، وتوجّه نحو المنصة. كان حائرا يتلفّت يمينا وشمالا في وجوه الحاضرين، لا أدري هل كان يبحث عن وجهٍ معين بين الوجوه. وأخيرا استقر عند المنصة، استنطقه مدير الورشة عن اسمه فأجاب: اسمي علي... وسكت ولم يُضِف شيئا. وعرفنا أن أباه حسين الصافي استشهد بالرصاص في حوادث التسعينات وهو ما يزال جنينا في بطن أمه، وأنه لا يمتلك وثائق رسمية لتحرّج الحكومة من إصدار شهادة وفاةٍ حتى الآن تحدّد سبب الوفاة حسبما أفاد عمه.
هناك مناظر أخرى تفيض إنسانية ورقة، تمنيت لو لم تسرع الوزيرة بالمغادرة، فلو شاهدتها ربما صحّحت وجهة نظرها، فموضوع «العدالة الانتقالية» ليس سعيا لتحقيق مكتسبات فئوية بالضرورة... وأن القول بأن الدولة احتضنت كل مواطنيها كما قالت ليس صحيحا، خصوصا مع تجاهل إنصاف سبعة آلاف من ضحايا الحقبة السوداء... وأن هناك روايات بحرينية لم تُكتب فصولها الإنسانية بعد.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ