العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ

عن ليلِ المحرق الذي طال كثيرا!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

ليل المحرق غادرته وتغادر معاطفه هذه المرة سرب من التوشيات الرومانسية المتعاقبة، وبسمات الأصالة المطرزة والمقصبة بخيوط الأحاديث والمرويات الفولكلورية والاجتماعية الغنية التي لطالما ميزت المحرق على وجه الخصوص وفجرت واقع انفتاحها وتعدديتها، فقد أزهق المحرق طول أذيال ليلها وسُمْك جلدته البهيمة، فقد أصبح كالبساط الجلدي الرمادي الكاتم بثقله أنفاس الخلائق والمعكر لمزاجها الوطني الرحب! فهو الليل الذي تختبئ وتتعلق في جنباته وتغضناته وتجاعيده خفافيش الانتهازية والارتزاقية السياسية والاجتماعية التي يسيل لعابها على سطوح وجدران بيوت وأزقة هذه المدينة التي كانت مدينة مفتوحة للجميع، فإذا بها الآن أشبه ما تكون بالمقصورة التي تتعارض صورة وواقعا ما يحمله هذا الاسم من معاني ودلالات منح الأهمية المحورية، وإعطاء التفخيم والاعتبار والاحتماء والتركيز الرعائي/ الدعائي الخصوصي، إلا أنه لا يفلح أبدا في أن يخبئ بالمحرق صنوفا متراوحة من البؤس والتعاسة والشقاء ذاته التي ظلت تعاني منها معظم مناطق وحواضر البحرين الطبيعية والطبيعية لا الاصطناعية!

المحرق بليلها الطويل الذي تطوف في دروبه جياد النهار المتعبة، وتحل في وديانه قوافل المواسم والفصول الرتيبة لم تعانٍ قط من الانمساخ الثقافي والحضاري مثلما تعاني منه اليوم، وهو الانمساخ الذي تسبب به مغادرة الكثير من أهلها الذين ضاقت بهم الطرقات و«الدواعيس» التي لطالما تربوا فيها، وامتنعت وتردت أبسط الخدمات الوظيفية في هذا العمران القديم المكدس على بعضه بعضا كالمتاهة، فأخذوا يتجهون نحو المدن الفسيفسائية الحديثة، وترافق مع ذلك غزو العمالة الوافدة الأجنبية التي اتخذت لها من أعرق «الفرجان» والبيوت البحرينية الأثرية مأوى ملائما لها لملء أبسط الحاجات الإنسانية والمعيشية كما هي أضحت وكرا لممارسة الرذائل الأخلاقية وضحية لتشابك واعتلاج الاختصاصات والمهام الإشرافية والتنظيمية، واليوم تأتينا القوانين لحماية هويتها وأصالتها المفقودة باسم حظر تداول العقار بعد أن ضاعت الهوية والأصالة، وخاب أمر العقار! كما أن هذه المدينة في ليلها الثقيل لم تعد ملاذا للمغامرات النضالية الوطنية، ومرفأ لاستقبال الأفكار التحررية والنهضوية كما كانت في سابق نهارها الأبلج، فهي اليوم قد أمست وكرا آمنا وجحرا دافئا لاستيراد الأزمات والكوارث والمصائب المجتمعية والسياسية إقليميا، أو هي ورشة لتصنيع وتسليع «الغونغو» و«النشطاء السياسيين» وترويج «الحرفشة السياسية» وتلصيق الحراشف الفكرية، فأخذ يسري في غالب خلايا الجسد المحرقي التهاب طائفي وإثني وشوفيني عصبي يطرد مختلف أشكال الراحة والعافية والانتعاشة الوطنية! هذا الجسد المرهق بالتعصب والتصلب المفتت، وهذه المدينة التي أصبحت البوابة الشرقية بانتظار حارسها بعد أن كانت مدينة الأبواب والمجالس المفتوحة، وقد استوطنها بكامل «فرجانها» وسواحلها المبتورة «صمخ النواخذة» بدلا من أنات وآهات الغواصين، وهذا «الصمخ» الذي لم يعد حكرا على «النواخذة» فقط دون غيرهم بل هو حالة وظاهرة وعلة مرضية تكاد أن تكون جامعة وعامة حتى للـ«النشطاء الطراروة» وبعض النواب، فيضيع وسط دياجير «الفرجان» و«الأزقة» صوت المناضل الراحل عبدالله فخرو (رحمه الله) برنينه الجرسي الماسي الموشك على التخافت! وأصبحت مقولة وحكمة لطالما رددها الأجداد وهي «مجالسنا مدارسنا» بمثابة الطرفة الشعبية التي لا تنسجم مع واقع أصبحت فيه «مجالسنا هي محابسنا» حينما اكتشف وحذر وثبت بأن «السياسة» أو«التسييس» مضر كثيرا بالصحة وهادمة لللذات، فغابت من المجالس تلك الحوارات البناءة والموضوعية المرتبطة بقضايا وهموم الشعب من منظور وطني شامل، فالكثير من تلك المجالس قد بهت صوتها كثيرا فاختفت باستثناء مجلس شويطر الذي واصل تأدية رسالته الاجتماعية والسياسية بإخلاص وتفان عال.

لقد طاب لمتسلقي ومتسولي المجتمع والسياسة ولـ «للقراريص» بسائر أنواعها أن تختار من المحرق برمزيتها الشعبية المنتهية معقلا لها لتساهم في تعليب الوعي السياسي والمجتمعي والحقوقي أو تسطيحه لتصديره إلى كل مكان في عموم الوطن، وإن كان متسولو «سوق الحلوى الشعبية» و«سوق المحرق» في نظري هم الأكثر براءة وحسنا وأصالة، والأقل خطورة من غيرهم من متسولين «كشخة» و«أتقياء» يرتادون المجالس والمحابس! هذه المدينة والحاضرة البحرينية الكبرى التي كانت حاضنة وطنية لا تقاوم هي اليوم مقصورة مغلقة ومغلفة تحلق بعيدا وفي انعزال عن روح المواطن البحريني القادم من مدن فسيفسائية حديثة ومن قرى ومناطق نائية مغلقة قد لا تعاني بداخلها من مثل هذه العزلة المحرقية، ومن الأمراض المجتمعية والسياسية على رغم وجود ثلاثة جسور و«الدفان»، ففي هذه المدينة/ المقصورة ربما تكون أنت اليوم بحاجة ماسة إلى الإذن والترخيص والتصريح والصورة الفوتغرافية وغيرها من بروتوكولات لم تتعرض لها سابقا تلك البساطة والألفة الاجتماعية بهذه المدينة لتناول موضوع بسيط ومشترك وتسليط الضوء عليه، عسى ألا يزعج ويخدش هذا الضوء الناعم ليل المحرق، فخدشه يزعزع الأمن القومي، أفليس من أدنى شعب الإيمان لدينا هو إماطة الأذى الوحدوي الوطني عن الطريق الاجتماعي والسياسي، وإن كان هذا الطريق «داعوسا» مهملا في المحرق؟! لقد طال كثيرا ليل المحرق الحبيبة، وكأنما هو ليل أصم بهيم طويل الأذيال ليس بعده من نهار، وانقلب وضع المدينة ومزاجها الحاد في هذا الليل العدمي القاسي كثيرا، وربما قد احتار الكثير من المواطنون من أبناء الجيل الجديد بشأن حقيقة هذا الليل البهيم الطويل الخارق للعرف والعادة الكونية، في حين فسر أبناء الأجيال السابقة بأن كل ما في الأمر هو أن المحرق قد اختطفت وسبيت في جراب أو «خيشة» منذ زمن، فلم يعد هنالك من ليل ولا نهار سوى ظلمة هذا الجراب أو «الخيشة» الخانقة والكاتمة للأنفاس والأحاديث!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1753 - الأحد 24 يونيو 2007م الموافق 08 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً