من المحزن جدا أن يدار نقاش على مستوى وطني بطريقة الطرشان على مدى أربع سنوات. فموضوع العدالة الانتقالية ليست ترفا ولا مضيعة للوقت، ولا هي نكأ لجراحٍ قديمة، وإنما هي مصلحة وطنية بالدرجة الأولى.
الشعوب الأخرى التي مرّت بمثل تجربتنا السياسية السابقة خرجت من مربع الأحزان بفتح القلوب لمناقشة مآسيها والبوح بذكرياتها المريرة، ولم تتعامل بدفن رؤوسها في التراب كالنعام. فالهروب من مواجهة المشكلات لا يحلها، والإصرار على إنكارها لا ينفي وجودها، بل يكرّس بالمقابل قناطر أخرى من الأحزان.
من السهل أن يأتي وزيرٌ أو نائبٌ أو حتى شخصٌ متمصلحٌ لا يصلح بوّابا على مبنى وزارة، ليكرّر أن طرح العدالة الانتقالية سيفتح ملفات الماضي أو يثير فتنة في البلد. مثل هذا الطرح هروبٌ من استحقاق وطني مؤجّل، تفرضه علينا شرعة حقوق الإنسان، فضلا عن القانون والشرع الإسلامي الحنيف. الدعوة إلى العدالة الانتقالية هي دعوةٌ لإنصاف آلاف المواطنين المتضرّرين من قانون «أمن الدولة»، خلال ثلاثين عاما، كان المواطن يؤخذ بالظنة ويسجن بالتهمة، مع تقييد فم القضاء البحريني آنذاك. هذه حقائق لا يستطيع إنكارها أكثر الناس حبا وموالاة وتبعية للحكومة، وهو ما يستوجب شجاعة في التقدم خطوة إلى الأمام على طريق الحقيقة.
الكلام ليس لإحراج الحكم ولا لتحقيق مآرب فئوية لتعيد بعض قوى الموالاة رص صفوفها واستنفار طوابيرها، وإنما هي قضيةٌ إنسانيةٌ ملحة، من المعيب أن نظل ندافع عنها في الصحافة، ونحاول أن نقنع بها الأطراف الأخرى في الوطن بعد أربع سنوات من عهد الإصلاح. والمفروض أن نعالجها بقناعاتٍ نابعةٍ من الداخل بعدالتها، ولا نترك الخارج يتدخل ليفرض علينا قناعاته وأجندته الخاصة.
ثم أن مصطلح «العدالة الانتقالية»، ومادامت بعض جمعيات حقوق الإنسان المحلية اجتمعت لمناقشته، مدعومة بملفات سبعة آلاف مواطن متضرّر، فإن ذلك يستبطن الاعتراف بوجود مشكلةٍ حقوقيةٍ وإنسانيةٍ مهمة، ما زلنا نعرقل معالجتها لأننا لم نمتلك بعد الشجاعة الأدبية للإقرار بها.
من السهل جدا لمن لم يُقلع له ظِفرٌ في أحد الأقبية أو يُعلّق أحدٌ من أهله أو جيرانه في مروحة السقف، أن يدّعي أننا تجاوزنا الحقبة السابقة، وهو ادعاءٌ ينكره آلاف المتضررين، فضلا عن عوائل أكثر من خمسين مواطنا من ضحايا «أمن الدولة»، الذين لا تقنعهم التنظيرات الباردة من وراء مكاتب الوزارات الفخمة.
ثم أن القول إننا لسنا بحاجةٍ إلى استيراد تجارب أخرى لا يستقيم إلاّ إذا قدّمنا تجربة مشرفة يمكن أن نباهي بها الشعوب الأخرى. ولا ينكر أحدٌ أننا في مرحلة انفراج سياسي، ولكن لا يمكن القول إن طريقتنا في إدارة هذا الملف الإنساني يمكن أن يكون مفخرة لنا. وفي تعاطينا مع التجارب الإنسانية، يجب ألاّ نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، فنهلل ونتفاخر باستيراد «بنك جرامين»، ونرفض مشروع «العدالة الإنتقالية» لأنه طبق في بلد عربي مختلف، أو نرفض مبدأ «المصالحة الوطنية» لأنها طبقت في اليونان أو تشيلي أو جنوب إفريقيا! فتجربة نيلسون مانديلا والقس دزموند توتو إرثٌ للإنسانية كلها، والترفع عن استلهام مثل هذه التجارب الكبرى إنما يضيع الفرصة لإنصاف آلاف المواطنين ويكرّس مشاعر الغبن والظلم، ويعرقل الإصلاح الحقيقي ويشوّه سمعة الأوطان.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1752 - السبت 23 يونيو 2007م الموافق 07 جمادى الآخرة 1428هـ