أعلن أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى قبل مغادرته بيروت وبلغة دبلوماسية راقية عن فشل «المبادرة العربية» في التوصل إلى صيغة يجمع عليها اللبنانيون. إعلان الفشل لم يمنع موسى من التأكيد على أن الدول العربية لن تتخلى عن لبنان. وإنها تحذر من تكرر «تجربة غزة ثانية»، مشيرا إلى خطورة تشكيل «حكومة ثانية» ؛لأن الدول العربية لا تعترف ولن تعترف إلا بحكومة واحدة.
هذا الكلام الدبلوماسي الواضح في ترسيم خطوط الملابسات السياسية جاء على خلفية معلومات انفردت صحيفة «النهار» في نشرها. وتقول المعلومات إنّ موسى نجح في انتزاع ورقة كتبها بخط يده أحد كبار قادة «8 آذار» تقترح ثلاث خطوات للتسوية. أخذ موسى الورقة إلى «14 آذار» فوافقوا عليها من دون تعديلات. عاد موسى إلى المسئول ليزف له البشرى فما كان منه إلا أن حذف نقطة من ثلاث، مشيرا إلى أن المحذوفة تمثل رأيه فقط ولا تعكس بالضرورة مواقف كل أطياف «8 آذار».
فشلت الورقة الأولى وعاد التفاوض إلى الصفر. واستكمل موسى نشاطه واتصالاته وتوصل إلى انتزاع ورقة ثانية من مسئول كبير في «8 آذار» تتألف من خمس نقاط. حمل موسى الورقة الثانية إلى «14 آذار» فوافقوا عليها على رغم أنها تحتوي على نقاط سلبية تتمثل في التهرب من دعم الجيش والأجهزة الأمنية. وكانت المفاجأة أن الطرف الذي وضعها من جهة «8 آذار» تخلّى عنها واختفى عن السمع. وبعد اتصالات طويلة وشاقة دامت عشر ساعات جاء الرد بان أطياف «8 آذار» غير متوافقة على كل النقاط وهي تلحق الورقة الثانية بمجموعة شروط تتصل بالمحكمة الدولية وموعد الانتخابات الرئاسية وغيرها من ملاحظات.
عند هذا الحد اكتشف موسى أن مهمته فشلت وأن الأزمة اللبنانية ليست محلية الصنع فقط وإنما هناك مجموعة عوامل دولية وإقليمية مرتبطة بها وتمنع اللبنانيين من التوصل إلى توافق يؤكد على «استئناف الحوار الداخلي».
كلام موسى الدبلوماسي الذي ظهر في مؤتمره الصحافي قبل مغادرته بيروت كشف عن نقاط جوهرية ومهمة حين حذر من تكرار «تجربة غزة» أو العمل على تشكيل «حكومة ثانية» موازية للحكومة الحالية وعلى غرار ما حصل في القطاع. وأهم ما ورد في كلامه أن موسى قطع الشك حين أوضح أن الموقف العربي لن يؤيد أو يعترف إلا بحكومة واحدة. وطالب كل الفرقاء اللبنانيين من دون انحياز أو اتهام لطرف معين بأن يبذلوا جهودهم للتفاهم وأن جامعة الدول العربية مستعدة للعودة وتجديد مبادرتها إذا توصلت الأطياف إلى جدول أعمال يضع الأزمة على سكة الحل.
لغة موسى الدبلوماسية توخت الحذر واختارت الكلمات حتى لا تقول إن الزيارة فشلت وهي خطوة وداعية ؛لان البلد مقبل على تطور خطير ليس بعيدا عن ذاك الذي حصل في قطاع غزة.
الوضع فعلا خطير في لبنان، وذلك لأسباب كثيرة عدد موسى عناصرها وأبعادها الدولية والإقليمية. وتلك الأسباب تتجاوز كل الكلام عن «حكومة وطنية» أو «حكومة إنقاذ» أو «حكومة اتحاد وطني» أو حكومة متوازنة تتمثل فيها كل الأطياف بحسب أحجام الكتل البرلمانية. والربط الذي لمح إليه موسى بين ما حصل في غزة ويمكن أن يتكرر في لبنان هو صحيح في منطقه السياسي وليس مستبعدا أن يعاد إنتاج السيناريو نفسه ؛لأنه في النهاية يصب في إطار تكتيك «الفوضى الهدامة» واستراتيجية التقويض الأميركية.
المشكلة في لبنان معقدة وهذا ما أدركته لجنة تقصي الحقائق العربية حين ربطت بين ساحة البلد الصغير «المفتوحة والمكشوفة» وتلك الساحات الملتهبة والممتدة من غزة إلى بغداد. وفعلا إذا أراد المراقب أن يعرف ماذا يحصل في لبنان عليه متابعة ما يحصل في العراق وفلسطين. وإذا أراد أن يعرف ماذا يحصل في فلسطين عليه متابعة ما يحصل في العراق ولبنان. وإذا أراد أن يعرف ماذا يحصل في العراق عليه متابعة ما يحصل في فلسطين ولبنان.
ملاحقة الحوادث في الساحات الثلاث تكشف عن وجود مشروع تقويض مترابط في المنطقة. فالساحة العراقية متجهة نحو «فيديراليات طوائف» موزعة على ثلاث مناطق على الأقل. والساحة الفلسطينية متجهة نحو «ثنائية سياسية» تتجاذبها حكومة تقودها «حماس» في غزة وحكومة تقودها «فتح» في الضفة مع احتمال حصول تعديلات وتغييرات في الشهور المقبلة ليس بالضرورة أن تكون لمصلحة الرئيس محمود عباس. ولبنان في هذا السياق الإقليمي ليس بعيدا عن تلك الفضاءات التي أخذت ترتسم معالم حدودها ميدانيا وعلى الأرض.
كل الأمور في هذا البلد الصغير واقفة وتنتظر الحل. والحلول التي تتسابق أطياف «8 و14 آذار» على وضعها على الأوراق هي فعلا مجرد أوراق قابلة للحذف والشطب والتعديل وأيضا التمزيق. فالبلد دخل منذ العام 2004 مرحلة «التدويل» وبات سقفه العربي محكوما بمجموعة شروط وبنود نص عليها القرار 1559. والبلد أيضا دخل بعد عدوان الصيف الأميركي - الإسرائيلي في سياق تدويلي آخر نص عليه القرار 1701.
قضايا لبنان المحلية والإقليمية والخاصة والعامة باتت مدولة ولم يعد بإمكان جامعة الدول العربية التحرك خارج السياق المذكور. وإذا حاولت كما حصل في مشروع المبادرة الأخيرة سيكون مصيرها الفشل كما أعلن موسى في لغة دبلوماسية مهذبة. فالتدخل العربي كما يبدو غير مسموح وإذا حصل يحبط أو يضرب بعرض الحائط كما كان أمر «تفاهم مكة» بين حماس وفتح.
بين غزة والعراق
لبنان إذا بات على قاب قوسين من تكرار «تجربة غزة». وإعلان الحكومة الثانية بات هو الاحتمال المرجح في حال تواصلت الأطراف والأطياف المحلية على جرجرة البلد الصغير من فوضى سياسية إلى فوضى أمنية ومن معارك ساخنة على ضفاف «نهر البارد» إلى منصات صواريخ تطلق من الجنوب وتنسب العملية إلى جهات مجهولة وغير معروفة الاسم والعنوان.
كل الدلائل تشير إلى احتمال انشطار البلد إلى حكومتين على غرار ما حصل في غزة. ولكن الوقائع التي جرت في القطاع ليس بالضرورة أن تكون متشابهة مع هذا الاحتمال المتوقع حصوله في لبنان.
بلاد الأرز معقدة في طبيعتها الجغرافية وتضاريسها الاجتماعية وهي بالتالي مرشحة إلى اهتزازات أمنية أصعب وأخطر بكثير من تلك المشاهد المخزية والمحزنة والمؤسفة والبائسة التي نقلتها مباشرة فضائيات ووكالات أنباء ومحطات تلفزة.
المشاهد «الغزاوية» إذا قيّض لها أن تشهد النور في لبنان فإنها ستكون مضاعفة وأسوأ بكثير من تلك التي جرت في القطاع. فالبلد الصغير متداخل ومتشابك في تضاريسه الطبيعية والاجتماعية وليس منبسطا جغرافيا كما هو حال القطاع. فغزة فقيرة ومعزولة أصلا وتعيش فيها مجمعات فلسطينية نزحت تباعا من أراضي 1948؛ الأمر الذي جعل من القطاع الأكثر كثافة سكانية. وظروف القطاع المذهبية والطائفية متجانسة ومغايرة لتلك في لبنان كذلك تفصله مساحة جغرافية عن حدود الضفة الغربية. حتى التركيبة الهرمية للسلطة السياسية والأجهزة الأمنية واضحة في انقساماتها السياسية الثنائية مضافا إليها أن دول الجوار التي تحيط بغزة تختلف عن تلك التي تحيط بلبنان. فالقطاع شبه مغلق ومراقب بينما البلد الصغير مفتوح ومشرع الأبواب ومكشوف السقف.
كل هذه العوامل الإضافية تجعل من احتمال انفجار لبنان مسألة خطيرة ومخيفة في اعتبار أن الصراع القائم على أرضه ليس محليا وإنما يعتمد على قوى لبنانية متنوعة الطوائف والمذاهب وممتدة إقليميا وجغرافيا وجواريا.
اللعبة إذا خطرة ولا يستبعد في حال انجرف لبنان إليها أن تشهد المنطقة سلسلة تقلبات لايمكن رصد تداعياتها من الآن . فالبلد ضعيف كدولة، ولكنه ليس كذلك كطوائف. فالطوائف في لبنان أقوى من الدولة وهي قادرة على إشعال أو إشغال الكثير من القوى بتفرعاتها وامتداداتها في حال وجدت نفسها محاصرة في دائرة من النيران.
احتمالات انفجار لبنان ليست مستبعدة. وفي حال حصل مثل هذا الأمر فإن مشاهد الانفجار ستكون أقرب إلى ساحة العراق منها إلى ساحة غزة. فالتعقيدات اللبنانية لن تتوقف عند حدود حكومتين كما حصل في فلسطين بل سيرشح منها مجموعة قنابل عنقودية ستضاعف من عدد الحكومات نظرا إلى تعدد زعماء الطوائف وقادة الميليشيات وأمراء الحرب. والكلام التحذيري الذي صاغه عَمرو موسى بلغة دبلوماسية راقية يكشف فعلا عن قلق عربي من احتمال تهديد هوية لبنان العربية وتمزيقها إلى «كانتونات» لا يعرف مَنْ يمولها ويديرها ويقرر سياستها.
مشروع التقويض إذا لم يفشل وسياسة «الفوضى الهدامة» تواصل أعمالها مستخدمة في برنامجها أطرافا أيديولوجية ليست بالضرورة متوافقة معها أو متجانسة مع طروحاتها. فالحسابات الأميركية براغماتية وليس المهم مَنْ يصنعها بل المهم عندها منْ ينفذها. فهل بالإمكان منع حصول هذا الاحتمال في لبنان أو أن يسبق السيف العذل؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1752 - السبت 23 يونيو 2007م الموافق 07 جمادى الآخرة 1428هـ