أنهى اللبنانيون جلسة الحوار الثانية التي تصادف انعقادها في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. وتساجل المتحاورون على مجموعة نقاط تتصل بقضايا الصراع العربي - الإسرائيلي واستراتيجية الدفاع الوطني وعلاقة الدولة بالمقاومة وترسيم الحدود مع سورية وإصلاح نظام المحاصصة وإلغاء الطائفية السياسية وإعادة هيكلة الاقتصاد وضبط السلم الأهلي بين المجموعات التي يتألف منها المجتمع.
هذه النقاط متشعبة ومتداخلة في شبكاتها الأهلية لذلك يرجح أن تأخذ الكثير من الوقت للتوافق على الحد الأدنى بشأنها. وبسبب تنوع الآراء وتعدد وجهات النظر تقرر تعيين جلسة ثالثة للحوار حدد موعدها في 22 ديسمبر/ كانون الأول المقبل لاستكمال بحث ما تبقى من نقاط عالقة بشأن الكيان ومحيطه ومصيره ومستقبله المهدد بالانهيار. ويرجح أيضا ألا تتوصل الجلسة المقبلة إلى توافق نظرا لتعقد المشكلات وتداخلها وتشابكها. فالنقاط المطروحة في ظاهرها سياسية وفي باطنها وجودية لأنها تتطرق إلى موقع الكيان ودوره ووظيفته وحاجة المنطقة له وقدرته على تحمل تغير الموروثات التي صنعت هويته السابقة وما طرأ عليها من تحولات أخذت تزعزع استقراره وقد تؤدي إلى تحطم صيغته وتشرذمها إلى دويلات (كانتونات) طائفية ومذهبية ومناطقية.
لبنان الآن يمر في مرحلة انتقالية صعبة تحتوي على الكثير من المخاطر التي تهدد وجوده أو على الأقل تعدل موقعه ودوره ووظيفته وتلك الصيغة التي تشكلت تحت رعاية دولية منذ العام 1840. فهذا البلد الصغير اختلفت عليه الكثير من الدول وتعرض لانقسامات وانشقاقات وحروب صغيرة أنتجت تشكيلات سياسية اجتماعية مؤقتة تم تعديلها وتشذيبها وتهذيبها مرارا من دون التوصل إلى حل نهائي بشأنها. وسبب الفشل في احتواء أزمات لبنان الدائمة يعود إلى تميز موقعه الجغرافي ودوره التاريخي (التجاري) في البحر المتوسط وعلاقاته المتأرجحة مع حضارات المنطقة.
إلى ذلك هناك مشكلة اللجوء السياسي - المدني الذي تعرض له هذا البلد الجبلي (المرتفعات والغابات) ما أدى إلى تعديلات نسبية أثرت في تطوره الديموغرافي (السكاني) وانشطاره إلى وحدات بشرية متخالفة في دياناتها وعاداتها وتقاليدها ونظرتها إلى الحياة ورؤيتها للمحيط والحضارات المركزية والثقافات الجوارية.
الهوية والكيان
مشكلات لبنان كثيرة إلا أن تطور تكوينه السكاني - الاجتماعي ساهم في تعديل شخصيته وهويته خلال محطات تاريخه المعاصر. فالديموغرافيا اللبنانية تعرضت خلال قرن ونصف القرن إلى متغيرات في التوازن السكاني (الأهلي) بين الأكثرية والأقلية. فالأكثرية الدرزية (فرقة الموحدين) في القرن الثامن عشر تحولت إلى أقلية في القرن التاسع عشر. والأقلية المارونية تحولت إلى أكثرية ما أدى إلى اصطراعها مع الدروز واقتسامها جبل لبنان ضمن صيغة كانتونين (قائمقاميتن) ثم اصطرعت مجددا في حرب أهلية ثانية حتى توصلت برعاية أوروبية - عثمانية إلى نظام المتصرفية (حكم ذاتي برئاسة مسيحي).
استمر نظام المتصرفية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918 فتقوض بعد تفكك السلطنة العثمانية ودخول المشرق العربي تحت مظلة الانتداب الفرنسي - البريطاني ليعاد تشكيل «لبنان الكبير» في إطار صيغة اعتمدت النظام الطائفي والتعددية المذهبية وفق حسابات سكانية جرى تعدادها في مطلع القرن الماضي. آنذاك كانت المجموعات المسيحية تمثل غالبية نسبية (65 في المئة) والمجموعات المسلمة أقلية نسبية (35 في المئة). ولكن التطور الديموغرافي عدل نسب التوازن الأهلي فأصبح المسلمون في سبعينات القرن الماضي يشكلون غالبية والمسيحيون أقلية، ما أدى إلى تغيير طفيف في توزيع الحصص كما نص بذلك «اتفاق الطائف».
التحولات الديموغرافية لم تتوقف بعد انتهاء الحروب الأهلية الإقليمية التي اندلعت من العام 1975 إلى العام 1990. فهذا المتغير واصل تقدمه من دون تعديل في التوازن السياسي (الثنائية المسيحية - المسلمة) وتوزيع المناصب والمقاعد ما أدى لاحقا إلى زعزعة الاستقرار ودفع البلد إلى مواجهات أهلية محدودة أخذت تهدد وجوده وكيانه.
مسألة الهوية نقطة مهمة في تشكيل طبيعة النظام السياسي وتوجهاته الثقافية في اعتبار أنها تعتمد بقوة على قاعدة السكان (الديموغرافيا) والتحولات الدائمة التي تتعرض لها بحكم الولادات والهجرة. وفي هذا المعنى الخارج على الإرادة تبدو هناك صعوبات في التوافق على حل دائم للمشكلات اللبنانية حتى لو انعقدت عشرات جلسات الحوار في قصر الرئاسة الجمهوري أو خارجه. فالمسألة الديموغرافية تلعب دورها الثقافي في تحديد هوية الكيان السياسي وموقعه ووظيفته وعلاقته بالمحيط ونظرته إلى الحضارات المشرقية ومدى استعداده لتقبلها والانخراط في دائرتها.
الجانب الديموغرافي يفلسف الهوية ويثقفها ويعدلها ويصيغ لها ايديولوجية تبرر وجودها وتمايزها عن الجوار الجغرافي وحضارته وتاريخه وسلوكه الاجتماعي وطقوسه الدينية. ومثل هذا النوع من الايديولوجيا ساهم الكثير من المؤرخين والمفكرين اللبنانيين في شرحه وتفسيره سابقا حتى توصل الجيل المؤسس للكيان الحديث في ترسيم قواعد فلسفية حددت هوية متميزة للشخصية الحضارية اللبنانية.
اعتمدت «الايديولوجيا اللبنانية» على مفاتيح فلسفية بررت صيغة الكيان ومبررات تأسيسه وأوضحت طبيعته الخاصة المختلفة عن المحيط وتاريخه. واستمرت تلك الايديولوجيا تلعب دورها المميز في إنتاج ثقافة خاصة للتسويق المحلي والاستهلاك الإعلامي إلى أن تعرضت للاهتزاز في سبعينات القرن الماضي ما دفع أصحابها إلى التخلي عن بعض جوانبها وتعديل جوانبها الأخرى أو حتى طرح بدائل تشير إلى استعداد للتقسيم الإداري والجغرافي لتعيش كل هيئة طائفية في وحدة سياسية مستقلة مجاورة للأخرى.
فكرة تفكيك الكيان ليست مطروحة الآن ولكنها معروضة للتداول السلمي في حال لم يتوصل المتحاورون إلى ترتيب جدول زمني ينظم الخلافات في إطار صيغة وطنية مشتركة تضمن لكل الأفرقاء حق المشاركة في القرارات المصيرية التي تهدد وجود الكيان بالانهيار في كل منعطف زمني.
المسألة إذا خطيرة وهي ليست مجرد خلافات سياسية على نقاط عامة تتصل باستراتيجية الدفاع وترسيم الحدود مع سورية وتنظيم العلاقة بين الدولة والمقاومة وإنما تتجاوز هذه الإطارات لتصل إلى مرتبة الكيان ووجوده وتوازنه الأهلي ودوره وموقعه ووظيفته ومستقبله. فالصراع على الهوية نقطة مركزية في التجاذبات الأهلية والإقليمية التي يشهدها الآن لبنان. وهذا الصراع يفتح الباب للاطلاع على تلك «الفلسفة اللبنانية» التي تأسست في خضم مراجعات ايديولوجية وأنتجت مدارس تاريخية أعادت رسم شخصية فريدة (الفرادة) مميزة للكيان منذ بدء ظهوره في العصر الحديث.
الدولة والايديولوجيا
بدأت الايديولوجيا (الفلسفة اللبنانية) تتشكل مع إعلان قيام «دولة لبنان الكبير» في العام 1920. ففي تلك المرحلة قاد رجال الدولة معركة فكرية لتنظير الأسباب التي دفعت إلى تكوين كيان خاص في المشرق العربي يتميز بشخصية ثنائية مركّبة من مسيحيين ومسلمين تختلف في طبعتها الثقافية وطبيعة سلطتها السياسية عن المحيط العربي (المسلم) والحضارة الأوروبية (المسيحية). فالفلسفة بدأت من فكرة «الفرادة» و «الثنائية» حتى تعطي المبرر لتلك الصورة المخالفة في هويتها الحضارية عن الجوار (الصحراوي) والمتصالحة في ثقافتها المغامرة مع البحر (المتوسط).
انطلاقا من هذا الفضاء الايديولوجي بدأ المفكر يوسف السودا بوضع الحجر الأساس لهذه الفلسفة وجاء تلميذه ميشال شيحا (رجل مصرفي وقانوني) ليكمل الرحلة الايديولوجية. وبعد ذلك تطورت تلك المفاتيح (المداخل الايديولوجية) لتتحول إلى أقانيم مقدسة تعتمد على معطيات غير قابلة للتعديل في اعتبارها تتشكل من قناعات راسخة في أصولها التاريخية ولا تتحمل النقاش لكونها تمس المسلّمات وتعطّل إمكانات حماية الكيان والدفاع عن سيادته واستقلاله.
أدى هذا التأسيس الايديولوجي إلى تشكيل «فلسفة لبنانية» كان لها تأثيرها النفسي السيكولوجي على الشخصية اللبنانية حين أخذت بها الأجيال وتداولتها من دون قراءة نقدية تعطي الكيان حقه الطبيعي وشرعيته التاريخية وتأخذ منه ما هو زائف ومصطنع ومختلق.
اعتمد الفلاسفة وغيرهم من مؤرخين لبنانيين (جواد بولس وفيليب حتي) على مواد تاريخية ومظاهر جغرافية (طبيعة الجبل الجميلة) وخصائص اجتماعية (ثقافية) لتأسيس ايديولوجية لاتزال متماسكة وسارية المفعول وتؤثر على عقول أجيال. فالبناء الايديولوجي متين وقوي سواء في مفرداته وسواء في محاولاته لتأصيل مفاتيح معرفية اجتهد الكثير من رجال المدارس الحزبية لتطويرها وتحويلها إلى مشروع سياسي يستحق الدفاع أو الموت في سبيل إنجاحه أو المحافظة عليه وصيانته من التلاشي.
أهم المفاتيح الفلسفية تلك التي تشكلت من مصطلحات ذات قيمة فكرية في تحديد مواصفات دولة أو توصيف حضارة. وعلى أساس هذه المنطلقات الايديولوجية تم تحديد إطارات نظرية لصيغة الكيان وشخصيته تركزت سياقاتها المختلفة على النقاط الآتية: الجغرافيا (الطبيعة)، التعدد (التنوع)، الفرادة (التمايز الاجتماعي والثقافي)، التفوق (العلو والتعالي)، الملجأ (الخوف واللجوء إلى الجبل)، الشراكة الاجتماعية (العقد الثنائي).
هذه المفاتيح (المداخل الفلسفية) أسست ايديولوجية نجحت في تكوين ثقافة خاصة قادرة على الدفاع عن لبنان وشخصيته التاريخية الجغرافية الاجتماعية (المتميزة والمتفوقة). وهذا ما أدى إلى توليد مشاعر تعتمد مصطلحات سياسية تؤكد ضرورة المحافظة على «نوعية» بشرية اكتسبت خبرة ونجحت في تكوين عقلية متفوقة تمتاز بالرقي بسبب تضمنها خصائص متوارثة لا تأتي بالاكتساب.
فما هي تلك الفلسفة؟ وكيف قرأت ايديولوجيا جغرافية لبنان وتكوينه السكاني؟ وما هي المفاتيح التي اعتمدها الجيل المؤسس لتوضيح صورة الكيان وتعميمها بصفتها من المسلّمات العقائدية (المحرّمات) التي لا يجوز تعديلها أو تطويرها أو تحديثها؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2261 - الخميس 13 نوفمبر 2008م الموافق 14 ذي القعدة 1429هـ