حفلات التنكر والتصريحات التي أطلقت من واشنطن وتل أبيب بشأن ما حصل من سلب ونهب وتشويه لرموز الثورة الفلسطينية في قطاع غزة ستنكشف قريبا على حقيقتها. كل ما قيل ونشر من كلام يستنكر ذاك المشهد المخزي مجرد «قنابل دخانية» لتغطية السياسة التقويضية التي انتهجتها تل أبيب لتحطيم سلطة ياسر عرفات الفلسطينية منذ العام 2002. فما حصل من دوس الأشاوس لكوفية عرفات (أبوعمار) هو بالضبط ما تريده تل أبيب وواشنطن. فهذا المشهد البائس هو جزء لا يتجزأ من مخطط «الفوضى الهدامة» الذي يؤسس الانقسامات ويلعب عليها لتمرير مشروع كبير.
النفاق الأميركي - الإسرائيلي سيظهر على حقيقته قريبا مهما أطلقت من تصريحات وسجلت مواقف شجب وأعلنت خطوات تزمع الإفراج عن أموال فلسطينية محجوزة في صناديق تل أبيب. فهذه الفزعة الأميركية - الإسرائيلية وما رافقها من ادعاء الحرص على سلامة المدنيين في الضفة والقطاع مجرد «قنابل دخانية» بهدف إعلان البراءة مما حصل والانسحاب الإعلامي من المسئولية.
الكارثة السياسية التي وقعت في القطاع هي نتاج خطة مبرمجة اتبعتها تل أبيب بدعم من واشنطن منذ خمس سنوات. فهي بدأت في اليوم التالي من قمة بيروت التي أعلنت مشروع مبادرة عربية. ومنذ ذاك اليوم اتبعت حكومة أرييل شارون منهج التقويض ضد السلطة الفلسطينية فبادرت إلى شن حملات عسكرية بهدف إعادة احتلال الضفة والقطاع وحاصرت عرفات في مقر الرئاسة في رام الله فخرج منهوك القوى يصارع المرض إلى أن رحل عن الدنيا.
سياسة الحصار والتجويع لم تتوقف عند هذا الحد بل استمرت تتبع خطوات منهجية لأضعاف السلطة وتقويضها من الداخل. وحين حصلت الانتخابات التشريعية الفلسطينية وفازت «حماس» بغالبية المقاعد في مطلع العام 2006 وجدت تل أبيب في المناسبة ذريعة ايديولوجية لإعلان حرب التجويع على الشعب الفلسطيني وممارسة سياسة العقاب الجماعي اقتصاصا من خياراته الديمقراطية.
ادعاء واشنطن وتل أبيب عدم المسئولية عما حصل في الضفة والقطاع يعتبر قمة النفاق السياسي الأميركي - الإسرائيلي. فالهدف من المقاطعة والحصار وشن سلسلة اعتقالات اشتملت على نواب ووزراء كان يتوخى زرع الشقاق الداخلي وتقويض السلطة وبعثرتها على مراكز قوى تتجاذبها استقطابات أهلية وسياسية. وهذا ما توصلت إليه خطة التفكيك بعد 16 شهرا. فتل أبيب جددت رفضها مشروع المبادرة العربية التي أعيد إحياء بنودها في قمة الرياض. كذلك تعاملت بسلبية وبدعم مباشر من واشنطن وبعض الأطراف العربية في موضوع «تفاهم مكة» الذي أسس سلطة ثنائية تجمع «فتح» و «حماس».
برنامج التقويض واضح في خطواته فهو حاصر عرفات ثم واصل سياسة القضم وبناء الجدار العنصري وسجن الشعب خلف الأسوار. ثم انتقل إلى تطويق سلطة محمود عباس بقصد إضعافها حتى تنهك وتستنزف. ثم انتقل إلى مقاطعة الشعب ومحاصرته ومعاقبته على خياراته السياسية بعد فوز «حماس». ثم جدد رفضه مشروع المبادرة العربية وألحقها برفضه «تفاهم مكة» والتعامل السلبي مع بنود الاتفاق الثنائي، وأخيرا وبعد «مخاض» طويل وصل الانشقاق الفلسطيني إلى حد الاقتتال المسلح.
هذا البرنامج التقويضي تم بناء على خطة منهجية ومبرمجة أميركيا وإسرائيليا ومهما ادعى تحالف واشنطن وتل أبيب البراءة من المسئولية وتظاهره بالحرص على الشعب الفلسطيني فإن النتيجة السلبية تأسست على أسباب. ومن صنع الأسباب يعرف تماما أن النتيجة ستظهر على صور مشاهد تناقلتها وكالات الأنباء ومحطات التلفزة.
حبل الكذب
حتى الآن حبل الكذب والنفاق والدجل الأميركي - الإسرائيلي لم يتوقف. وما حصل في القطاع هو بداية مشهد تريد تل أبيب استكمال حلقاته.
بدأ النفاق منذ اليوم الأول لذاك الانقلاب الذي حصل في غزة. فواشنطن أعلنت خوفها من تلك القوة الصاعدة التي صادرت القطاع. وتل أبيب أعلنت استعدادها للانفتاح على حكومة عباس في الضفة بشروط تعجيزية يراد منها في النهاية ليس رفع الحصار عن الناس وإنما الاستمرار في معاقبة بقايا سلطة عرفات.
«حبل الكذب قصير» كما يقال، ولكنه أحيانا يأخذ الشهور وربما سنوات ليصل إلى مداه الأخير. فالتحالف الأميركي - الإسرائيلي أظهر غضبه من «الانقسام الفلسطيني» وأعلن دعمه حكومة الطوارئ الفلسطينية وقرر سلسلة خطوات ترفع المعاناة عن السكان وغيرها من كلام يراد به الباطل.
الصورة مختلفة تماما وهي في ظاهرها غير باطنها. فما حصل في القطاع ليس حادثا وقع خارج سياق الخطة المبرمجة. والغضب الأميركي - الإسرائيلي مجرد خداع أراد أن يغطي البهجة والفرح والسرور والسعادة وغيرها من مشاعر الفخر والاعتزاز التي عمّت إدارة واشنطن وحكومة تل أبيب. وإعلان الدعم وفتح قنوات الاتصال والإفراج عن الأموال وغيرها من تصرفات إعلامية كلها خطوات مؤقتة القصد منها تمرير الوقت للكشف عن الوجه الحقيقي للمشروع.
مشكلة تل أبيب الأساسية ليست مع القطاع وإنما مع الضفة. والصراع مع السلطة الفلسطينية يتركز في جوهره السياسي على قضم الضفة الغربية ومصادرة أراضيها وهدم قراها تمهيدا لإلحاقها بالأراضي المحتلة في العام 1948. وبما أن المشكلة أولا مع الضفة وثانيا مع القطاع فالمرجح أن تقع المواجهة الحقيقية مع سلطة عباس (حكومة الطوارئ) وليس مع سلطة إسماعيل هنية (حكومة حماس).
كل الكلام الأميركي الذي قيل عن تطوير «نموذج فلسطيني» في الضفة يحتذى ويجذب الناس إليه هو مجموعة فِقرات خادعة ليست بعيدة عن ذاك «النموذج» الذي وعد جورج بوش بتأسيسه في العراق. ويرجح أن يحصل في الضفة ما يشبه ذاك «النموذج» الذي صنعه بوش في بلاد الرافدين.
«الضفة أولا» هذا صحيح. إلا أن الحقيقة هي أن الاحتلال الإسرائيلي لا يرى في القطاع مشكلته الأساسية. فالقطاع مشكلة أمنية ولا يشكل ذاك الهاجس الاستيطاني الذي يؤرق تل أبيب ويجعلها تندفع بقوة نحو تأسيس المستعمرات وجرف البيوت والمزارع وتشييد جدران العزل. وبما أن الضفة تشكل مشكلة بنيوية تمس عضويا مشروع الاحتلال والاستيطان فمعنى ذلك أن الاختلاف السياسي سيتركز على تلك المناطق المصادرة والمغصوبة وهي تقع كلها تقريبا تحت سلطة حكومة الطوارئ.
كل ما قيل من كلام أميركي - إسرائيلي عن دعم الشرعية الفلسطينية مجرد «قنابل دخانية» هدفها تضليل الرأي العام وتغطية مشروع الاحتلال الذي يستهدف أصلا أراضي الضفة لا القطاع. والصور التي تناقلتها وكالات الأنباء عن دوس كوفية عرفات كانت كافية في رموزها وإشاراتها لتطمين تل أبيب. فالرسالة وصلت وقرأ إيهود أولمرت فِقراتها جيدا وتصرف على أساس معانيها وألغازها. فبعد ما حصل في غزة بات بإمكان تل أبيب التفرغ إلى معركتها الحقيقية في الضفة الغربية.
المسألة إذا ليست ايديولوجية أو «حرب بين معتدلين ومتطرفين» كما ادّعى بوش، بقدر ما هي واقعية تتصل بمناطق الصراع الفلسطيني مع الاحتلال. والخلاف الايديولوجي مع «حماس» في قطاع معزول دوليا ومنطقة تعتبر لوجستيا ساقطة عسكريا لا يحتل أولوية في مشروع الاستيلاء والاستيطان. فالاستراتيجية الإسرائيلية العملية تتركز خطواتها الاحتلالية (مستوطنات) في الضفة. لهذا السبب الموضعي (العضوي والبنيوي) يرجح أن يكون الخلاف الحقيقي مع سلطة عباس (حكومة الطوارئ) حتى لو التقى مع رئيسها في شرم الشيخ أو في أي مكان آخر من العالم وقدم إليه التعازي وأغدق أمام عدسات الكاميرا الوعود والورود.
حفلات التنكر وتصريحات النفاق وإطلاق الكلام المعسول بتحويل الضفة إلى «سنغافورة» أو «هونغ كونغ» كلها مجموعة «قنابل دخانية» يراد منها تمزيق الهوية الفلسطينية وتقويض بقايا سلطة بقصد تثبيت الاحتلال والاستمرار في سياسة القضم والاستيلاء ونشر المستوطنات واستكمال بناء جدار الفصل العنصري.
«الضفة أولا» هذا صحيح، فهي فعلا تحتل الأولوية في استراتيجية التوسع الإسرائيلية. وكل ما عدا ذلك يمكن وضعه في خانة الهراء الأميركي الذي يرتكب الجريمة ثم يدعي البراءة منها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1751 - الجمعة 22 يونيو 2007م الموافق 06 جمادى الآخرة 1428هـ