إحدى النواحي الأكثر إرباكا والتي تشكل لغزا في السياسة الإسرائيلية خلال السنوات الخمس الماضية هو أنه لم تعطِ لا حكومة شارون ولا حكومة أولمرت مبادرة السلام السعودية أي اعتبار أو أهمية. فعبر معظم فترة وجودها لم تستطع «إسرائيل» سوى أن تحلم بعرض يحتوي على السلام بشكل واضح وصريح، والاعتراف بحق «إسرائيل» في الوجود وتطبيع علاقاتها مع الدول العربية.
لماذا إذا لم يقدم رئيس الوزراء إيهود أولمرت سوى بعض الكلام المعسول ردا على المبادرة السعودية، ولماذا لم يُشِر رئيس الوزراء السابق آرييل شارون إلى أنه على استعداد لأخذها مأخذ الجد، ولو مرة واحدة؟
هناك أسباب جيدة للاعتقاد بأن المبادرة السعودية، والتي أقرّتها جامعة الدول العربية، تنبع من مصالح ثابتة وملموسة على الجانب العربي. السعوديون وغيرهم من الأنظمة العربية في المنطقة خائفون من أن الشرق الأوسط قد يتداعى ويسقط في دوامة من الفوضى إذا لم تتم السيطرة على تيار الطائفية وانتشار الحركات الإسلامية. فهم يؤمنون أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو واحد من أقوى العوامل التي تدعم التطرف الإسلامي.
لقد وصل العالم العربي نقطة ينضم فيها إلى الشرعنة الدولية لـ «إسرائيل» والتي وفّرها قرار الأمم المتحدة للعام 1947 الذي وافق على خطة التقسيم، لأنه لم يعد يعتقد أن رفض وجود «إسرائيل» هو في مصلحته.
لماذا لا تشارك «إسرائيل» إذن في مبادرة السلام السعودية؟
تطالب هذه المبادرة، مثلها مثل أي اقتراح عربي قد يبرز في أي يوم من الأيام، «بحل عادل لمشكلة اللاجئين». الخوف المتعمق في «إسرائيل» هو أن يكون الإصرار العربي على حل قضية اللاجئين الفلسطينيين مؤامرة لمحو «إسرائيل» كدولة يهودية عن الخريطة، وليس بالطرق العسكرية وإنما بالأساليب السكانية، من خلال غمر «إسرائيل» بملايين الفلسطينيين.
إلا أن هناك نماذج لحل المشكلة. يقول الفلسطينيون ذوو النفوذ والتأثير في مناقشات خاصة أحيانا إنه بالنسبة لهم يعتبر القبول بحق العودة إلى حد بعيد، قبول «إسرائيل» بالمسئولية الأخلاقية عن النكبة (وهو التعبير الفلسطيني للحوادث التي واكبت إنشاء «إسرائيل» وأزمة اللاجئين التي تلت ذلك)، أكثر مما هو عن العودة الفعلية للفلسطينيين إلى ديارهم داخل حدود العام 1967. وأعطى اتفاق بيلين/أبو مازن العام 1995 تعبيرا شبه رسمي لوجهة النظر هذه.
هنا باعتقادي يكمن أعمق أسباب تردد «إسرائيل» بالمشاركة النشطة بالمبادرة السعودية. لم يتقبل الطرح الإسرائيلي العام والوعي الوطني في يوم من الأيام هذه الفكرة، التي قبلها المؤرخون من كل الأماكن اليوم، ومفادها أن «إسرائيل» طردت 750،000 فلسطيني من منازلهم عامي 1947 - 1948، وبالتالي فإنها تتحمل مسئولية جزئية على الأقل عن النكبة الفلسطينية.
وهذا لم يحصل حتى اليوم لأنه يُنظر إلى هذه الفكرة على أنها تقوّض قواعد المؤسسة الصهيونية وشرعية وجود «إسرائيل». الأمر يبدو وكأننا عالقون في ورطة لا يمكن حلها، فإما أن ننكر مسئوليتنا عن النكبة أو أن نقبل بأن لا حق لنا بأن نكون هنا؟
هذا هو مصدر الخوف المعمق الذي يمنع «إسرائيل» من ملاقاة العالم العربي وجها لوجه والقول «نحن هنا، ونحن نعتقد أنكم تقبلون بوجودنا». وبما أن «إسرائيل» لم تتفهم بعد دورها في المسئولية التاريخية عن النكبة الفلسطينية فهي لا تستطيع أن تصدق بحق أن بإمكان العرب أن يقبلوا بوجودنا في الشرق الأوسط.
نحن واقعون في شرك التذبذب بين صور ذاتية عن الجيد بكامله والسيئ بكامله، ولذلك نستمر في احتلالنا للمناطق الفلسطينية، بكل الرعب الذي يترتب عليه ذلك، لأن فكرة أن تكون «إسرائيل» مذنبة في أي أمر ما زالت تماثل إنكار حقنا بأن نكون هنا.
السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو طرح السؤال عن كيف يمكن لـ «إسرائيل» أن تعيش مع مسئوليتها عن النكبة في الطرح العام. يجب استبدال المأزق المتمثل في «إما أن تكون أخلاقياتنا صافية لا تشوبها شائبة أو أنه ليس لنا حق بأن نكون هنا»، بطرح يقبل أن واقع «إسرائيل» الأخلاقي والتاريخي والسياسي هو معقد ومتعدد الطبقات مثله مثل واقع أية دولة أخرى.
في أفضل العوالم المحتملة، ينهض رجل دولة إسرائيلي (وهو سلعة نادرة في عصر لا يوجد فيه إلا مجرد ساسة) ويقول للفلسطينيين، «لقد أتت (إسرائيل) إلى الوجود في ظروف مأسوية أوقعت معاناة وظلما عظيمين عليكم. نحن نتحمل مسئوليتنا عن الجزء الخاص بنا من المأساة على رغم أنه ليس بإمكاننا إصلاحه بشكل كامل. لنجلس معا ونرى كيف يمكننا وضع حد للدائرة المفرغة من العنف والمعاناة ونعيش جنبا إلى جنب».
من الأرجح ألا يحصل هذا في المستقبل القريب. أي سياسي يهودي إسرائيلي يقول شيئا كهذا يصبح غير قابل للانتخاب. لذلك فإن الأمر عائد إلى المواطنين لإبراز هذا الأمر أمام الوعي الوطني، وإلا فإن السياسات الإسرائيلية ستستمر في أن تكون خالية من أي إبداع أو أفق سياسي، وسنفوّت فرصا تاريخية قد لا تعود أبدا.
* أستاذ في علم النفس بجامعة تل أبيب، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1750 - الخميس 21 يونيو 2007م الموافق 05 جمادى الآخرة 1428هـ