في فبراير/ شباط 2001 وقف وزير العدل الأميركي ليعلن في مؤتمر صحافي عن اعتقال جاسوس اخترق شبكة التجسس الأميركية وعمل لمصلحة المخابرات السوفياتية/ الروسية نحو 20 سنة. كان للخبر وقعه الصاعق على الجمهور والعالم. فالجاسوس اعتقل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستمر يعمل لمصلحة المخابرات الروسية من دون أن يتوقف نشاطه أو تلغى وظيفته السابقة. فالمخابرات مخابرات ولا صلة لها بالعالم الفوقي. وهي كما يبدو أقوى من الدول. فأحيانا الدول تنهار أو تتغير الأنظمة والتحالفات والأصدقاء والأعداء ويبقى جهاز المخابرات يعمل من دون انقطاع. الشبكة الجاسوسية التي تعمل سرا وتحت الأرض أقوى وأمتن في علاقاتها من الشبكة السياسية التي تتحرك علنا فوق الأرض. وهذا ما حصل مع الجاسوس الأميركي الذي استمر يزود المخابرات الروسية بالمعلومات الخطرة التي كشفت أسماء عملاء للمخابرات الأميركية (50 عميلا) وسربت مخططات عسكرية وفضحت تقنيات وأسرار اكتشافات علمية واختراعات إضافة إلى أرقام تمس الأمن القومي.
وزير العدل وصف اعتقال الجاسوس بأنه كان من المهمات الصعبة. واتهم العميل بأنه ألحق أضرارا بالمصالح الأميركية تفوق قيمتها مليارات من الدولارات.
ما قصة الجاسوس؟ وكيف بدأ؟ وكيف نجحت الاستخبارات بالإيقاع به؟ هذه الأسئلة تشكل مادة فيلم «BREACH» التي تتحدث عن الاختراق الذي يقال: إنه الأخطر في تاريخ الولايات المتحدة.
يبدأ الشريط السينمائي بمادة أرشيفية تستذكر وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير العدل الأميركي في واشنطن. ففي تلك الفترة كانت الولايات المتحدة تمر في مرحلة انتقالية ولم يكن مضى على نهاية عهد الرئيس بيل كلينتون سوى شهر واحد وكان دخل عهد الرئيس جورج بوش الابن شهره الثاني. وعملية الانتقال هذه من فترة ديمقراطية إلى فترة جمهورية تُحدث عادة ارتجاجات بسبب تعديل الوظائف وتبديلها ونقل مئات آلاف المقاعد من حزب إلى آخر. وحدها الأجهزة الأمنية لا تمس كذلك وكالات الاستطلاع والاستخبار والتجسس. فهذه المؤسسات فوق القانون أو على الأقل تخضع لمراقبة ذاتية وتتمتع بميزات خاصة.
المفاجأة كانت أن حادث اكتشاف أخطر جاسوس في تاريخ الولايات المتحدة حصل في مطلع عهد بوش وقبل أشهر من وقوع هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
هذه المفاجأة هي موضوع الفيلم الذي يبدأ بعد المادة الأرشيفية بمشهد جاسوس يصوّر رجلا وامرأة يتشاجران أمام المنزل. الجاسوس تظاهر بأنه من المشردين (سكان الأزقة والشوارع) وأخذ يلتقط الصور للزوجين ويظهر من ملامحهما أنهما من ديار المسلمين الآسيوية.
اللقطة ذكية. ولعل المخرج أراد أن ينبه المشاهد إلى أن ملاحقة المسلمين الآسيويين وغيرهم بدأت قبل هجمات سبتمبر. وربما أراد القول إن تغيير الأعداء (من الشيوعية إلى الإسلام) سهل للخصوم الكثير من الفرص والاستمرار في اختراق الأجهزة وتسريب المعلومات والوثائق السرية.
هذه الفكرة يمكن وضعها في السياق المذكور؛ لأن ما حصل هو أن قيادة المخابرات العليا اختارت المصور في مهمة ملاحقة الجاسوس الآخر الذي أوقع به. اختيار المصور جاء لعدة أسباب ولكن مهمته الجديدة أملت عليه مغادرة نشاطاته السابقة التي كانت كما يبدو تركز على ملاحقة المشتبه فيهم من المسلمين وتصويرهم وتسجيل محادثاتهم وتعقب تحركاتهم.
المهم أن المصور الشاب الذي يعمل لدى أجهزة المخابرات وافق على تكليفه بالمهمة الجديدة التي تعتبر الأخطر في حياته. فالجهاز اختاره من بين العشرات ليكون سكرتيرا يراقب موظفا غير عادي ويحتل أعلى رتبة تقريبا في المخابرات الأميركية. فالمهمة صعبة والشاب قليل الخبرة وأقل معرفة وذكاء ودهاء من جاسوس يعمل في شبكة المخابرات الأميركية منذ 25 سنة ولم يتبق أمامه سوى الشهرين ليحال إلى التقاعد.
معركة صعبة
المعركة إذاَ محدودة زمنيا وتحصل ضد شخص شديد الحساسية ويشك في كل خطأ أو حركة وينتبه لكل الأمور التي تحصل ولنقله فوقه وتحته وحوله. ولهذا السبب لجأت المخابرات إلى ترفيع مرتبة الجاسوس والتذرع بذلك لتقله إلى مكتب جديد مخترق بآلات التنصت وكاميرات التصوير. ومع ذلك عجزت الأجهزة عن التقاط إشارات دامغة تدينه وتضعه في السحبة مدة طويلة وكافية للانتقام منه.
مهمة الشاب إذا كانت محصورة في نقطة واحدة وهي استدراج الجاسوس القديم أو إيقاعه بمسألة واحدة تكون دامغة ويمكن استخدامها ضده في المحكمة. ومثل هذه المهمة صعبة ؛لأن الجاسوس ذو خبرة طويلة وقديمة ويتمتع بالذكاء الشديد والحرص على إظهار نفسه أمام الناس ورفاقه في العمل بمظهر بسيط ومتواضع. فالجاسوس لا يشرب ولا يذهب للقمار ويتوجه يوميا إلى الكنيسة ولا يقطع صلاة الأحد ويحب زوجته وأسرته ويلعب مع أحفاده. كل هذه المظاهر التي خلط فيها الأبوية بالتدين والارتباط الوثيق بالعائلة والكنيسة الكاثوليكية كانت متينة ومدروسة لإخفاء الوجه الآخر لهذه الشخصية العجيبة.
الشريط السينمائي توقف في إظهار هذه الشخصية المعلبة والمغلفة والمركبة أيضا من ازدواجيات تجمع ما بين الظاهر (الزائف) والباطن (الحقيقة). والمخرج حاول قدر الإمكان أن يشير إلى أن مثل هذه الشخصية المعقدة والمركبة من تعارضات لا يمكن أن يستهون سوى وظيفة التجسس على المخابرات.
بطل الفيلم نجح في الجمع بين شخصيتين اجتماعيتين متعارضتين، فهو أمام الموظفين متدين ويحب العائلة بينما معلومات جهاز المراقبة فهو رجل مثلي يشرب ويشاهد الأفلام الجنسية.
إذا هناك ما يشبه التطابق بين شخصية الجاسوس الاجتماعية ووظيفته المخابراتية. ففي شخصيته توجد أسرار لا تظهر أمام العدسات واللاقطات وكذلك في وظيفته توجد أسرار لا تقال ومعلومات لا تباح. فالمخابرات خدعة ومن يستطيع أن يمارس دور الخادع هو ذاك الذي يتمتع بشخصية مخادعة وتتهرب من المكاشفة.
هذه الشخصية الملتبسة/ المخادعة سهلت مهمة الاختراق ونجحت في عدم الانتباه إلى عالمها الداخلي. فهذه الشخصية أمتهت عمل المخابرات وفي الآن تجسست على المخابرات وخدعتها نحو 20 سنة. فمثل هذه الشخصية الملتوية كانت فوق الشبهات ولم يخطر في ذهن الأجهزة أن هذا الشخص المتدين العاقل يقف وراء تهريب معلومات للمخابرات. والأغرب من موضوع التجسس هو تلك الثقة التي نالها من مرؤسيه إلى درجة كلف مرارا برئاسة لجنة متابعة أو ملاحقة ذاك المشتبه فيه. ولم تدرك الأجهزة أن المطلوب للعدالة هو الشخص الذي كلفته بالإشراف على جلب الجاسوس إلى العدالة.
مهمة الشاب إذا صعبة. كيف يستطيع خداع كبير المخادعين؟ وكيف يمكن أن يتعامل مع شخص غامض إلى هذه الدرجة وقادر في الآن على إخفاء مشاعره وتغليفها بصور لا تعكس حقيقته؟
المهمة شديدة الصعوبة لذلك كان هناك جهاز متابعة يتألف من طاقم يضم 50 موظفا لا عمل لديه سوى ملاحقة هذا الشخص ورصد تحركاته يوميا من الصباح إلى المساء وفي المكتب وخارجه. وبفضل مساعدة رئيسة الفريق والمعلومات التي وضعته في صورتها نجح هذا الشاب في نقل معلومات دامغة (شرائط، رسائل، سجلات) أثبتت الشكوك وأكدت أن مسئول المخابرات هو جاسوس. وهذه الأدلة ساهمت في تحسين المراقبة إلى أن ألقت القبض عليه بالجرم المشهود.
الظريف في فكرة الفيلم التي تأسست وقائعها على رواية حقيقية أن نشاط الجاسوس استمر من دون توقف مع أن المعسكر الاشتراكي انهار وتحطم قبل عشر سنوات من اعتقاله. والنقطة التي تعتبر الأهم في سياق الشريط السينمائي هي أن المخرج حاول تقديم الجاسوس في جوانب إنسانية تتصل بضعف البشر وإحساسهم بالغبن والتقليل من أهميتهم ودورهم. فالجاسوس يعمل في الخفاء ولذلك كل إنجازاته تنسب لفريق معروف وتهمل الإشارة إلى الشبكات السرية. ومثل هكذا عالم مشدود إلى الخوف والتوتر والريبة والقلق يؤثر على الإنسان ويعيد تشكيل صورته وربما يعيد تصنيعها حتى تتناسب مع طبيعة الوظيفة. وبما أن طبيعة الوظيفة غامضة فلا بد أن تترك بصماتها على الموظف. وهذه مسألة إنسانية تؤرق الجميع بمن فيهم الجواسيس. عالم المخابرات هذا سيبقى مبهما ويلفه النسيان ؛لأنه يتألف من طبقات سرية وكل طبقة لها دهاليزها المستقلة أفقيا وتعمل على اختراق غيرها عموديا. ومثل هذا العالم ينتج أبطاله. ولكن البطل لابدّ أن يبقى تحت الأرض حتى يستكمل مهمته.
الجانب المأسوي في شخصية الجاسوس ألقت بعض الضوء الإنساني على عالم متوحش وسري ولا يقيم الاعتبار للضحايا والأبرياء. ولهذا السبب قرر رجل المخابرات الأميركي أن يخون بلده لا حبا بالمال ولا لأسباب سياسية وإنما لتلبية حاجة اللذة والتشفي والسخرية من أصحابه الذين يعملون معه في الشبكات والأجهزة.
خبر كشف الجاسوس روبرت هانسن
كشفت صحيفة «واشنطن تايمز» أن تنظيم «القاعدة» نجح في اختراق أجهزة الحاسوب الأميركية الحكومية والاطلاع عليها والتحكم فيها.
وذكرت الصحيفة أن رئيس شركة انسلو المحدودة للبرمجيات طلب من اللجنة - التي تحقق في هجمات 11 سبتمبر/ أيلول - التحقيق في تقارير ومعلومات أفادت أن بن لادن وتنظيمه نجح في اختراق ملفات الحاسوب السرية قبل الهجمات لتجنب الاكتشاف ومراقبة نشاطات تطبيق القانون الأميركي ووكالات الاستخبارات.
ووفقا للصحيفة التي تنقل عن ملفات التحقيقات «نجح بن لادن في شراء نسخة من برامج قاعدة بيانات (بروميس) التي تسمح بالدخول على الملفات السرية وذلك من السوق السوداء الروسية، بعد أن سرق عميل سابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي يدعى روبرت هانسن هذه البرامج وباعها للروس، والتي استخدمت فيما بعد في التجسس على حاسوب الولايات المتحدة». وتقول هيئات تطبيق قانون إن «هانسن أعطى البرامج الأميركية السرية لعملائه الروس، ويبدو أنها ذهبت بعد ذلك عن طريقهم إلى بن لادن؛ ما سمح له بمراقبة التحقيقات الأميركية عن شبكة (القاعدة)». وتشير الصحيفة إلى أنها كانت قد ذكرت في نهاية السنة الماضية أن نسخة معدلة من هذه البرامج (برامج بروميس) وصلت إلى بن لادن بعد أن باعها هانسن - الذي يوجد في السجن حاليا - للروس بمليوني دولار.
ووفقا للصحيفة التي تنقل عن السلطات فإن هذه البرامج لا تعطي بن لادن القدرة على مراقبة الجهود الأميركية لتعقبه فحسب، بل تمكنه أيضا من الوصول إلى قواعد البيانات بخصوص الأهداف المعيّنة، والقدرة على مراقبة الصفقات الإلكترونية المصرفية. وتضيف الصحيفة أن «الإدارة الأميركية قد أنكرت استعمال برامج بروميس أو أن يكون هانسن قد سلمها إلى الروس، إلا أن هيئات تطبيق القانون تؤكد ذلك، كما تؤكد أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يستخدم برامج بروميس في نشاطاته وإدارة معلوماته، وهو ما اعترف به مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي روبرت مويلير حديثا».
العدد 1749 - الأربعاء 20 يونيو 2007م الموافق 04 جمادى الآخرة 1428هـ