العدد 1749 - الأربعاء 20 يونيو 2007م الموافق 04 جمادى الآخرة 1428هـ

ذكريات غير متناثرة من النجف الأشرف

ارتبطت أماكن سكنت فيها سنوات كثيرة من عمري بشخصيتي وأثرت عليّ كثيرا... فمنذ أن كنت صغيرا أخذني والدي (المرحوم الشيخ عبد الامير الجمري) مع والدتي وأخي الأكبر محمد جميل الذي يكبرني بعامين إلى النجف الأشرف في العراق بعد أن قرر مواصلة علومه الدينية هناك، وذلك في العام 1962. كان عمري حينها عدة أشهر (ولدت في 17 ديسمبر 1961) وعندما فتحت عيني وبدأت أدرك ما حولي كانت والدتي قد أنجبت أختي عفاف التي تصغرني بسنتين... وعندما استقر الوالد في النجف نزل في منزل متواضع، ومن ثم انتقل الى آخر في منطقة الحويش.

النجف مدينة الإمام علي (ع) صعبة جدا في جوانب عدة... فهي مركز للعلوم الدينية ولمراجع الدين منذ الف عام وكثير من منشآتها تحمل اسماء ترتبط «بالهنود»، مثل الجامع الهندي والقناة الهندية، الخ، وذلك لأن الهنود الشيعة الذين كانوا يحكمون إحدى الولايات الهندية (ولاية عوض في شمال الهند) حتى القرن التاسع عشر الميلادي كانوا يدفعون الأموال الطائلة للمراجع ولمد قنوات المياه وتعمير المساجد وتوفير الخدمات في النجف الاشرف وفي كربلاء المقدسة أيضا. بيوت النجف تحتوي على «سرداب» والسرداب يحتوي على حفيرة (بئر ماء) مرتبطة تاريخيا بالقنوات التي كانت تمد المدينة بالماء. والسرداب عادة مظلم، بل إنه مخيف لارتباط كثير من حكايات وأساطير «الجن» بالبئر الموجود في السرداب. ولذلك فإنه مقفل إلا إذا قرر الوالد استخدامه في الصيف (لأنه بارد) لاستقبال الضيوف، أو لتبريد بعض المأكولات، مثل البطيخ الأحمر.

إقفال السرداب قد يخلصك من «الجن» ولكن عليك ان تقفل الباب الرئيسي بثلاثة أنواع من الأقفال وإلا فإنك قد تسرق في وضح النهار. كما ان عليك الامتناع عن الخروج من المنزل ما بين الساعة الثانية عشرة ظهرا حتى الثانية بعد الظهر وثم بعد العاشرة مساء. في الظهيرة ينتشر بعض أصحاب السوء للسلب وغير السلب وفي الليل (بعد العاشرة مساء) تبدأ الكلاب الضالة، وبعضها حجمها كبير جدا وأصواتها مزعجة، بغزو طرق المدينة ومعهم أصحاب السوء أيضا.

في الأوقات «الآمنة» الأخرى عليك الاحتراز فيما لو مر عليك شباب من أبناء إحدى العشائر النجفية... شباب العشائر يمشون جماعات جماعات ولهم الطريق والاولوية. وذات مرة كنا نلعب أمام منزل الشيخ علي الجزائري، وهو عالم دين فاضل كان يدرس لديه الوالد أصول الفقه، وبينما كنت ألعب مع ابنهم عصام لعبة «الدعبل» او ما يسميها أهل البحرين بـ «التيلة» مر علينا شخص واحد عرفنا لاحقا انه من ابناء إحدى العشائر الكبيرة. هذا الشخص لم يتعطل عندما مر بنا اذ قام بجمع «الدعبل» التي كنا نلعب بها ووضعها في جيبه. غير ان احد ابناء الشيخ الجزائري (وكان يكبرنا سنا) كان موجودا بالقرب منا فتدخل وأمسك بذلك الشخص وأمره بإرجاع «الدعبل» حالا. فما كان من ذلك الشخص الا ان قال «هل تعلم انني من آل بو...؟». فرد عليه ابن الشيخ الجزائري «قز القط»، وهي الأقرب لما يقوله أهل البحرين «طز»... الشخص الذي سلبنا أرجع «الدعبل» إلينا، إلا انه قال إنه سيعود في يوم الغد مع شباب عشيرته لكي يلقننا درسا لن ننساه.

ابناء الشيخ الجزائري توجهوا لشباب الجيران في الحي الذي نعيش فيه (عقد ابو الحسن الواقع في حي الحويش) وأخبروهم بأن «آل بو...» سيهجمون علينا يوم غد وعلينا الاستعداد. الجيران كانوا من العراقيين، وبعضهم كان من أصل إيراني، ولكنهم شعروا بالخطر يدهمهم فبدأوا الاستعداد عبر جمع الاخشاب ووسائل الدفاع الأخرى عند اشتباك الأيدي.

في اليوم الثاني عصرا، هجم شباب العشيرة النجفية المذكورة وبدأ العراك والضرب والشتم وما يشبه تكسير الابواب. غير ان شباب الحي تصدوا بجدارة لشباب العشيرة التي كان يهابها الجميع. ولذلك قام شباب العشيرة بتحويل هجومهم؛ إذ صادف مرور شاب إيراني (ليس من الحي) وكان المسكين لا يدري ماذا يدور، فانهالوا عليه بالضرب المبرح ولم يتركوه الا بعد أن شارف على الموت... وبعد ذلك نادوا شباب الحي وصالحوهم قائلين ان «المشكلة هي مع العجم فقط».

كانت تلك السنوات العجاف هي بداية وصول حزب البعث للسلطة، وكان الحزب ينشر الشعارات المعادية للإيرانيين في المدارس وفي كل مكان. بل ان المدرسين المنتمين لحزب البعث كانوا يقولون لنا اثناء التدريس «تستطيعون ضرب أي شخص عجمي (يعني إيراني الاصل) ولا يستطيع ان يفعل شيئا، واذا ذهب إلى الشرطة فإنه سيحصل على مزيد من الضرب».

عندما وصل حزب البعث إلى الحكم في العام 1968 بدأت الحياة تتغير كثيرا. فبالنسبة إلينا كطلاب في الابتدائية شاهدنا كثيرا من الامور. في البداية كانت الكتب تتغير، وبدلا من سورة الحمد او آية البسملة على الصفحات الأولى من الكتاب وجدنا بعض الكلمات المنسوبة لـ «القائد أحمد حسن البكر».

المدرسون البعثيون يمشون بزهو ويستطيعون تغيير الدرس من أية مادة إلى موضوع عن حزب البعث العربي الاشتراكي وعن شعاراته «وحدة وحرية واشتراكية»، «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»... إلخ. لا يجرؤ أي شخص على الاعتراض لان المدرسة ليست فقط مدرسة. فكل مدرس وكل فراش يحمل بيده «خيزران» وكل واحد منهم (حتى الفراش / حارس المدرسة) يستطيع ايقاف أي تلميذ وضربه بصورة مبرحة جدا ولا يوجد احد ينقذه. بل ان المدرس يستطيع ان يستعمل «الفلقة» مع التلاميذ. ولاستخدام «الفلقة» يأمر المدرس التلميذ بنزع حذائه وثم يأمر اثنين من الاشخاص بوضع «الفلقة» على رجليه ويتم رفع الرجلين إلى اعلى وعندما ينكشف اسفل القدمين ينهال المدرس على التلميذ بالخيزران بصورة شرسة بحيث لا يستطيع التلميذ المشي بعد ذلك.

قلائل هم الذين لم يحصلوا على ضرب الفلقة، اما الخيزران فلا يوجد احد لم يحصل عليه. لان المدرس يضرب لأتفه الاسباب. ومن القلائل الذين لم يتعرضوا لضرب الفلقة هم التلاميذ البحرينيون، أو ما يسميهم العراقيون «البحارنة».

«البحارنة» في مدرستي آنذاك (مدرسة الطالبية) كانوا أنا وأخي الاكبر (وفي آخر سنة لي في النجف كنت في الصف الخامس وكان قد دخل الصف الأول اخي صادق الذي يصغرني بأربع سنوات) وابناء السيدجواد الوداعي وابناء السيدشرف الخابوري (والذي كانوا يعتبرونهم من «البحارنة» على رغم انهم عمانيون) وفي احدى السنوات كان معنا ايضا سامي ابن الشيخ عيسى أحمد قاسم قبل ان ينتقل إلى مدرسة أخرى، وعدد آخر من أبناء طلبة العلوم الدينية.

هؤلاء «البحارنة» كانوا اهدأ التلاميذ ويحاولون الابتعاد عن المشكلات ما استطاعوا ذلك. وكانوا هم ايضا الذين يلتزمون بالفرائض الدينية أكثر من غيرهم، ويبدو ذلك واضحا في شهر رمضان. ففي هذا الشهر المبارك يصوم التلاميذ البحارنة (الصغار الذين لا يستطيعون الصيام يقللون من اكلهم)، كما ويصوم معهم مدير المدرسة ونائب المدير وعدد قليل من المدرسين وربما بعض التلاميذ. احد المعلمين كان عالم دين يلبس العمامة الدينية (ويطلق عليهم العراقيون موامنة، ومفرد ذلك مومن)، ومدرس آخر كان يصوم اسمه الاستاذ كاظم عرفت بعد سنوات عدة انه من التيار الاسلامي (حزب الدعوة) الذين نحر اكثرهم نظام حزب البعث في الثمانينات. فيما عدا ذلك، فإن شهر رمضان (في ظل حزب البعث العربي الاشتراكي) لم يكن له أي معنى في مدرسة ابتدائية في مدينة الإمام علي (ع)، فالأكثرية تأكل وتشرب وتدخن. عندما يدخل المدرس إلى الصف فان رائحة دخان السجائر تصل إلى كل مكان.

طابور المدرسة اقرب إلى طابور عسكري، وفي احد الأيام وصلنا المدرسة واذا بها مملوءة بالملصقات والشعارات التي تمجد «حزب البعث» وتتحدث عن امور عدة لم نكن نفهم كثيرا منها. فبالاضافة إلى شعار «نفط العرب للعرب» كانت هناك مقتطفات لـ «الاخ القائد أحمد حسن البكر» الذي كان رئيسا للجمهورية قبل ان يطيح به صدام حسين في العام 1979. وفوجئنا في صباح ذلك اليوم بوقوف نائب المدير الذي كان شخصا محترما ومتدينا (ومن اصول إيرانية على ما اعتقد) يخطب فينا عن الاعمال العظيمة التي قام بها حزب البعث لخدمة العراقيين. وبدأ يعدد انجازات الحزب في مدينة «دهوك» شمال العراق وفي بغداد وكيف اقام الطرق وسهل الامور... وبعد ذلك طلب منا ان نخرج في مظاهرة تأييدية لحزب العبث. كان ذلك كما اعتقد في العام 1970 أو 1971.

دخلنا الصفوف وكثير منا خائفون وكان يجلس بجانبي السيدعلي بن السيدشرف الخابوري وبعد عدة طاولات كان هناك السيدمحسن بن السيدجواد الوداعي، وبدأت انظر اليهما وماذا كان سيفعلان. التفت إلى السيدعلي وقلت له «لقد حذرني والدي من البعثيين والبعثي لايؤمن بالدين، مثل الكافر، ماذا نعمل؟». بعد عدة مداولات قررنا ان «نتظاهر» بالهتاف من خلال تحريك الشفاه ولكن من دون النطق بالشعارات لاننا اذا لم نشارك فان مصيرا اسود ربما ينتظرنا.

جاء المدرسون واخرجونا من الصفوف بعد ان هتفوا عدة شعارات مثل «وحدة وحرية واشتراكية، أحمد قائدنا واحنا بعثية»، «امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة» إلخ... المقصود بأحمد هو أحمد حسن البكر الذي حكم ما بين 1968 و1979. خرجنا ونحن خائفون وبدأنا نحرك الشفاه من دون ان ننطق بأي من تلك الشعارات الصاخبة. امرنا المعلمون بالذهاب إلى المدارس الأخرى واخراج تلاميذها. وفعلا كان يقودنا بعض المعلمين البعثيين لاسيما معلم الرياضة وكنا ندخل المدارس ونخرج التلاميذ. وعندما نمر امام مركز شرطة يزداد الحماس في الشعارات، ويقوم الشرطة برفع قبضات ايديهم مؤيدين لما نقول. ثم وصلنا إلى مدرسة رفض مديرها ان يخرج التلاميذ فما كان من تلاميذ مدرستنا الا انهالوا بالحجارة على المدرسة محاولين كسر بوابتها. واثناء القذف بالحجارة توقفت شعارات البعث وبدأت شعارات سوقية تشتم من بداخل تلك المدرسة. واخف شعار يمكن كتابته كان «ابو عقال لا تنقهر ترى الافندي قندرة». و«ابو عقال» هو الإنسان العادي الذي يلبس عقالا خارج المدرسة والافندي هم المدرسون والتلاميذ الذين يمنعون من لباس «العقال»، و»القندرة» تعني «الحذاء». ومعنى الشعار ان المدرس الذي منع تلاميذه عن الخروج انما هو «قندرة» (حذاء).

بعد ان أشبعوا تلك المدرسة رميا بالحجارة توجهوا إلى مدرسة إيرانية بالقرب منها وانهالوا عليها بالحجارة والشتائم الشخصية والعنصرية التي كان يطلقها افراد حزب البعث (من المدرسين) الذي قادوا المظاهرة. ومن تلك الشعارات «العرب فوق المنارة والعجم بالطهارة»، و«الطهارة» هي المرحاض.

كنا اثناء القذف بالحجارة ننزوي بعيدا لكيلا نتورط في ايذاء أناس آخرين نتفق أساسا معهم في عدم الخروج. كنا صغار السن والحوادث كانت اكبر منا بكثير ولا نعلم شيئا عن خلفياتها الهوجاء، فما عسى من كان عمره 9 او 10 أعوام ان يفهم كل الامور التي تدور حوله؟

مظاهرة اخرى خرجنا فيها - مرغمين - كانت ضد حزب البعث، والحزب الشيوعي هو الذي اخرجها، حملت احد شعاراته آنذاك «الوحدة الوحدة ياطلاب»... كنا قد انتقلنا لفترة وجيزة في مبنى مؤقت للمدرسة لاجراء بعض الاصلاحات في المدرسة الاصلية، وعند خروجنا من الدوام في احدى الايام الممطرة بدأ عدد من الطلاب الذين كانوا قد اتفقوا على اخراج التظاهرة بالضرب على الكتب والتصفيق والهتاف «الوحدة الوحدة ياطلاب»... الشعار كان جميلا، وسرعان ما اشترك الاكثرية في الهتاف، وتفرقت المظاهرة بسرعة... غير ان طابور اليوم التالي كان تحقيقا من المدرسين البعثيين بحثا عن الذين حرضوا عليها، وبالطبع فقد لاقى عدد من الطلاب نصيبهم من الضرب المبرح.

مظاهرة اخرى شاهدتها، من دون المشاركة فيها، كانت إما بمناسبة عيد الجيش او عيد العمال (لا أتذكر)، وكان كل الموظفين والعمال قد تركوا عملهم (ربما خوفا من العقاب او طمعا في المشي والصراخ) واشتركوا في تلك المظاهرة... اثناء انعقاد تلك المسيرة، كان المتظاهرون يضربون شخصا رفض الانضمام اليهم، وكانت وسيلة الضرب مؤلمة، فكل شخص يقوم بضربه بقوة خلف رقبته، ويدفعه الى الامام (أضرب وأشمر)، ويصرخ «خائن» ويأمر الآخرين بانه يتوجب عليهم ضربه الى ان يصل الى مقدمة المظاهرة، وهناك يتم تسليمه الى الشرطة... لم استطع الاستمرار في متابعة ماجرى لذلك الرجل المسكين، فالمظاهرة طويلة جدا، واحتمال اما انه اغمي عليه قبل ان يسلم الى الشرطة، وربما حدث له امر اسوأ من ذلك.

مدرستنا (الطالبية الابتدائية للبنين) كانت مكتظة جدا في الصباح، وفي المساء تتحول الى مدرسة اخرى باسم آخر، وفي المساء تتحول الى مدرسة ثالثة باسم آخر ايضا. فراش (حارس) المدرسة كان لقبه «عمي حسين»، وشخصيته قوية جدا وتنافس المدير، اذ كان يعتقد ان من حقه ان يأمر ويضرب التلاميذ سواء كانوا داخل المدرسة ام خارجها. اما نحن فكنا نغتنم بعض الفرص (خارج الدوام) لاثارته عبر اطلاق بعض العبارات والهرب قبل ان يرى وجوهنا ويتعرف علينا، ومن تلك العبارات «عمي حسين، اقعد زين، بيع الطماطة بفلسين». ولقد كنا نشتري المأكولات حينها بفلس او فلسين او عدة فلوس... وكانت عشرة الفلوس العراقية آنذاك شيء كبير اذ انها كانت تعطيك وجبة كاملة.

التحريض البعثي ضد «العجم» لم يكن له حدود، فكل عراقي من اصل إيراني (عجمي) خائن يجب طرده من العراق، وكل عراقي من اصل عربي ويعارض نظام البعث يلصقون به تهمة العمالة لتركيا آنذاك، وعلى العراقيين انذاك ان يختاروا بين ان يكونوا بعثيين، او عملاء لايران او عملاء لتركيا.

تهمة العمالة لتركيا ألصقت برموز عشائرية ودينية كبيرة. وعلى أساس ذلك تم اعتقال وإعدام ومطاردة عدد غير قليل من العراقيين عند وصول حزب البعث الى الحكم في 1968. ومن الذين أصابهم البعث بتهمه العمالة لتركيا كان الشهيد السيدمهدي بن الإمام محسن الحكيم الذي كان يعتبر الذراع اليمنى لوالده. وعندما وُجهت تهمة العمالة لتركيا هرب من العراق إلى البحرين ثم الامارات، وبعد ذلك إلى باكستان ثم إلى لندن وتم اغتياله في الخرطوم في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بعد قرابة عشرين عاما من المطاردة البعثية.

العدد 1749 - الأربعاء 20 يونيو 2007م الموافق 04 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً