في الجلسة المسائية من اليوم الأول حضرت رئيسة بلدية قرطبة روزا أغويلار التي رعت الملتقى وحيت المشاركين فيه، مؤكدة أن قرطبة تمثل في تاريخها الإسهام المرموق للحضارة العربية الإسلامية التي فاضت على أوروبا كلها والتعايش الخلاق بين أتباع الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، إذ يتم حاليا إعادة الاعتبار لتاريخ قرطبة وتجربتها بعد قرون من الصراع المدمر. وأبدت استعداد البلدية لاستضافة الملتقى القادم أيضا.
في الجلسة التي رأسها الأمين العام للنادي غيرناندو بيربيافا روبرت، جرى عرض عن التحول الديمقراطي في إسبانيا وقدمته شخصية تاريخية هو المحامي خايمي سارتوريوس.
عرض المحامي خايمي بوجزا تاريخ إسبانيا الحديث بدءا من الحرب الأهلية خلال 1936 - 1939، مرورا بعهد الدكتاتور فرانكو (1939 - 1975) ثم سنوات التحول المؤلمة في عهد الملك خوان كارلوس، وأخيرا العهد الحالي للملكية الدستورية الديمقراطية المستقرة.
قدم المحامي خايمي عرضا مؤلما للحرب الأهلية (1936 - 1939) والتي ترتب عليها هزيمة الجمهورية وانتصار الفاشية بقيادة الجنرال الدكتاتور فرانكو حيث قتل ما لا يقل عن 3 ملايين إسباني، وتدمير هائل في البنى الاقتصادية والعمرانية. وقد تبع انتصار الدكتاتور حملة إعدامات واسعة طالت أكثر من 100 ألف إثر محاكمات عسكرية جائرة واختفى عشرات الآلاف، وترتب على ذلك حال الخراب الاقتصادي والقمع السياسي الواسع، ونزوح ما لا يقل عن 2 مليون إسباني إلى البلدان المجاورة والبعيدة.
إثر انتهاء الحرب صدر قانون الوحدة الوطنية والذي يجرم بأثر رجعي كل من ناصر الجمهورية أو شارك في أجهزتها وكل من يساهم في العمل السياسي والنقابي المعارض ومصادرة أملاكه وسجنه 15 عاما.
تعتبر حقبة حكم فرانكو التي استمرت 37 عاما حقبة سوداء بكل المقاييس إذ عاش الشعب الإسباني بأسره عدا قلة من أنصار الدكتاتورية، ما تعنيه كلمات اضطهاد وقمع وتصفيات وإفقار وتخلف. وحتى بعد أن ثبت النظام الدكتاتوري سلطته، فقد عمد في العام 1965 إلى تشكيل المحاكم الأمنية لملاحقة المعارضين وخصوصا الحزب الشيوعي الإسباني والنقابات والمثقفين. لكن الشعب الإسباني لم يستسلم، ومع تطور صيرورة الوحدة الأوروبية وتفعيل ألياتها الديمقراطية في عموم أوروبا، فقد وجدت قوى المقاومة سندا لها، فكانت استراتيجية السوق الأوروبية المشتركة مزيجا من دعم الشعب الإسباني وقواه والضغوط على النظام الإسباني، لإرخاء قبضته. كما أن الكنيسة الكاثوليكية التي شكلت السند الروحي والمعنوي لنظام فرانكو عمدت إلى تغيير موقفها.
حدد المحامي خايمي العام 1970 كعام حاسم إذ عقد المحامون الإسبان مؤتمرهم وفيه تبنوا صراحة مطالب مهمة كالمطالبة بالعفو العام، وإشاعة الحريات، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والكشف عن المفقودين.
وهنا من المفيد ذكره أن نظام فرانكو استند في حكمه إلى ولاء القوات المسلحة وقوات الحرس الوطني والأمن والمخابرات ولكن أيضا إلى الحزب الشعبي اليميني وبعض النقابات الصفراء، التي تمثل مصالح كبار الملاك والرأسماليين.
ولقد تصاعدت النضالات السرية والعلنية لقوى التغيير الديمقراطي وفي مقدمتها الأحزاب، وخصوصا الشعب الشيوعي والحزب الاشتراكي والنقابات والمثقفين.
وفي العام 1974 صدرت أحكام قاسية بحق القادة النقابيين. وما عقد الأمور تصاعد العمليات الإرهابية لمنظمة إيتا الانفصالية، وهو ما يتحجج به النظام لعدم إرخاء قبضته البوليسية في أعقاب موت فرانكو في نوفمبر/ تشرين الثاني 1975، كلف الملك خوان الشخصية الليبرالية المعروفة (ادولفو شواريز) بتشكيل الحكومة وجاءت التشكيلة خليطا من الوزراء الذين تطمئن لهم قوى النظام والمعارضة.وأهم ما حققه شواريز وضع قانون انتخابي والاستفتاء على برنامج الإصلاح السياسي العام 1976. وتمخض عن الانتخابات وصول الحزب الحاكم (حزب الشعب) والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وأحزاب أصغر إلى البرلمان، حيث شكلت الأحزاب الرئيسية مجلس الوفاق الوطني، على رغم أن الحزب الشيوعي لم يزل محظورا، وقد تفاوض وفد مجلس الوفاق «التساعي» مع تغييب ممثل الحزب الشيوعي مع رئيس الوزراء على خطة الإصلاحات، وسط ضغوط من العسكر، ومعارضة أيضا من بعض القوى اليسارية.
وعمدت أجهزة وتنظيمات يمينية بقيادة وزير الداخلية نافارو (Navaro) على القيام باغتيالات لمحاميين شيوعيين، إذ رد الحزب باستنفار الجماهير سلميا. وأمام أجواء التعبئة أضفت الحكومة الشرعية على جميع الأحزاب والنقابات بما في ذلك الأحزاب والتنظيمات اليمينية، ثم الحزب الشيوعي لاحقا.
أمام ضغوط اليمين والعمليات القذرة للعصابات السرية بدعم من وزير الداخلية، اضطر شواريز للاستقالة، تبع ذلك إجراء انتخابات حرة في ظل حكومة مؤقتة حقق فيها الحزب الشعبي (sds) اليميني بقيادة شواريز الغالبية، كما حقق فيها الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي نتائج جيدة فيما تراجع حزب السلطة الفرنكوي إلى 8 في المئة. إثر ذلك تألفت حكومة تستند إلى غالبية برلمانية برئاسة شواريز.
لعب الملك خوان كارلوس الذي أتى به فرانكو ليشكل استمرارية لحكمه دورا حيويا، إذ رعى بحذر عملية الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. ففي أكتوبر/ تشرين الاول 1976، أصدر الملك عفوا عاما عن مئات الألوف من السجناء والمنفيين والملاحقين من قبل النظام الدكتاتوري وفي الوقت شرع بمنع الضحايا من المطالبة بأية تبعات أو ملاحقات ضد الجناة. وجرى إطلاق عشرات الألوف من المعتقلين السياسيين بمن فيهم معتقلو منظمة إيتا. كما عمد الملك للتنازل عن الكثير من صلاحياته لصالح البرلمان (الكورتس) المنتخب، وللحكومة المنتخبة وللقضاء، من أجل تكريس ملكية دستورية.
شهدت الأعوام التالية عمل القوى الموالية للديمقراطية لتجميع قواها، للمضي قدما، وتعميق الإصلاحات واجتثاث القوى الفاشية من مراكز القوى في الدولة والحياة السياسية والنقابية.
وقد رد العسكر بمحاولة إنقلاب فاشلة، إذ قام الحرس الوطني في فبراير/ شباط 1981 باحتلال البرلمان (الكورتس) واختطاف الوزراء وعدد من النواب. كما تحركت الدبابات من عدة مدن لمحاصرة مدريد.
وهنا كان موقف الملك خوان كارلوس حاسما، حيث ظهر على شاشة التلفزيون ليدين الانقلاب وينزع عنه الشرعية، وبهذا تهاوى الانقلاب.
عمد الملك إلى تكليف أرياس (Arias) وهو شخصية مستقلة بتشكيل حكومة تقود عملية التحول العميق والواسعة من أجل القطيعة مع الماضي والمضي قدما في ترسيخ الإصلاحات وتعميقها لتقوم على قاعدة المصالحة بين المواطنين الإسبان ونسيان الحرب الأهلية.
وأكد المحامي أن الشعب الإسباني وقواه السياسية والاجتماعية ونخبة متفقة على «التمسك بما يجمعنا ونترك ما يفرقنا».
وما يجمع هؤلاء جميعا التمسك بالنظام الملكي الدستوري الديمقراطي، بكل ما يعنيه، وهو الذي نقل إسبانيا من دولة استبدادية منحطة إلى دولة ديمقراطية مزدهرة ومستقرة ومكنها من الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، التي تحولت إلى الاتحاد الأوروبي، إذ تلعب إسبانيا دورا قياديا في الاتحاد الأوروبي، وخصوصا في علاقات الاتحاد مع الدول الأخرى المطلة على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، وجميعها دول عربية باستثناء الكيان الصهيوني وتركيا. وقد جرى تأطير هذا التعاون في الشراكة الأوروبية المتوسطية (مسار برشلونة) منذ 1995. ويعتبر نادي مدريد، أحد تجليات الدور الإقليمي والدولي لإسبانيا، كما تعتبر الشراكة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) والأميركية اللاتينية تجل آخر للدور الدولي لإسبانيا. وحسب تقدير المحامي خايما فإن المرحلة الانتقالية في إسبانيا هي الفترة الفاصلة بين موت فرانكو وصعود الملك خوان كارلوس للحكم في نوفمبر / تشرين الثاني 1975 حتى فوز الحزب الاشتراكي الإسباني بالانتخابات.
نعم لقد أنجزت إسبانيا المرحلة الانتقالية من الدكتاتورية إلى الملكية الدستورية الديمقراطية لكن هناك مشكلتان لا تزالان تلقيان بظلالهما على إسبانيا وهما مشكلة إقليم الباسك، حيث فشلت المفاوضات مع حركة إيتا الانفصالية، ومبادرة رئيس الوزراء الاشتراكي ثابتيرو لحلها سلميا، وعادت العمليات الإرهابية لإيتا والرد الحكومي عليها. والثانية أنه لم يجر حتى الآن إدانة وتجريم الجناة ولا إنصاف الضحايا. بعدها تحدث لوبيز سيرانو، الأمين العام للحزب الشعبي في قرطبة، وهو الحزب اليميني الذي يتناوب على الحكم مع الحزب الاشتراكي، عن التجربة الانتقالية علما أن لوبيزنوه يتكلم استنادا إلى الوثائق وليس إلى التجربة الشخصية، فهو من جيل الشباب الذي لم يعش عهد الدكتاتورية.
نوه لوبيز إلى أن الملكية والكنيسة ذات حضور تاريخي في إسبانيا، باستثناء فترة الجمهورية 1931 - 1937، وأضحت الملكية شكلية طوال حكم فرانكو 1937 - 1975. من هنا أهمية استعادة الملكية لدورها في ظل الملك خوان كارلوس، الذي هو ديمقراطي بطبيعته، وكذلك الكنيسة التي كانت مناصرة لفرانكو، لكن جرت تحولات كبيرة عليها منذ وفاة فرانكو وأضحت أحد القوى المؤيدة للتغيير.
إن أحد أهم عوامل نجاح الانتقال الديمقراطي برأي لوبيز هو التحول داخل الأحزاب المواجهة، الحزب الشيوعي عصب المقاومة الإسبانية من ناحية والحزب الشعبي، الداعم للدكتاتورية. فتحول الحزب الشيوعي بتبني الديمقراطية والشيوعية الأوروبية، طمأن العسكر، والتحول الديمقراطي في الحزب الشعبي طمأن قوى المعارضة، وسمح بقيام توافق بين الأحزاب الرئيسية الثلاثة الشيوعي والاشتراكي والشعبي على أجندة الإصلاح وأسهم في إيجاد توافق وطني على الدستور الجديد في 1978 وغيره من التشريعات والإجراءات.
أما العامل الثاني فهو وجود الملك خوان كارلوس على رأس الدولة بما تمثله الملكية من رصيد وما قام به الملك فعلا في المساعدة للانتقال من الدكتاتورية إلى الملكية الدستورية وعلى حد قول الملك خوان كارلوس «كنت الشخص الضروري في المرحلة الضرورية وقمت بالعمل الضروري». وتحدث لوبيز عن المعوقات في المرحلة الانتقالية، فذكر عدم إضفاء الشرعية على الحزب الشيوعي في المرحلة الأولى وهو تنظيم سياسي متجذر وقوة أساسية في التغيير واستثناءه من المفاوضات بين القوى السياسية ورئيس الوزراء الأول في عهد الملك كارلوس، ادولفو شواريز ثم الترخيص له لاحقا. كذلك فشل مانويل كلافير رئيس الوزراء بعد شواريز في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، واستقالته بعد حجب الحزب الاشتراكي الثقة عنه في البرلمان والمحاولة الانقلابية للحرس الوطني واقتحام البرلمان لإيقاف الإصلاحات وفشل الانقلاب وأخيرا تعثر الحل السلمي لمشكلة الباسك بفشل المفاوضات مع إيتا. كما تحدث عن التذبذب في مسار الإصلاح مثل استمرار تشريعات موروثة من عهد الدكتاتورية مثل القانون الجنائي وقانون الوحدة الوطنية وقانون الجمعيات السياسية وليس الأحزاب السياسية، وبقاء كثير من القيادات الموروثة عن الدكتاتورية في مواقعها.
لكن لوبيز خلص بالقول إنه جرى لاحقا إصدار دستور جديد، وألغيت التشريعات التعسفية وصدرت تشريعات تتوافق مع التحول الديمقراطي وجرى إبعاد العناصر المؤيدة للدكتاتورية والمعادية للديمقراطية تدريجيا وليس بعملية تطهير واسعة.
كما أكد لوبيز على أهمية احتضان أوروبا الديمقراطية لتساهم في عملية التحول الديمقراطي في إسبانيا وتأهيلها لعضوية السوق الأوروبية المشتركة (الاتحاد الأوروبي لاحقا) اقتصاديا وسياسيا.
ثم تحدث رئيس البيت العربي خايما مارتينز وهو مركز دراسات في مدريد وله فروع في قرطبة متخصص في الوطن العربي والتراث العربي، عن المرحلة الانتقالية في الدول العربية، منوها إلى أن لكل بلد عربي تجربته التاريخية، وعرض عوامل مهمة تحدد نجاح أو فشل المرحلة الانتقالية وهي:
أولا: المعايير وتشمل المشاركة الشعبية والحكم الرشيد وحكم القانون.
ثانيا: المسار واللاعبون، إذ يتفاعل المسار واللاعبون بشكل جدلي ويجب تحديد من هم اللاعبون. فإذا كان اللاعبون من داعمي الإصلاحات أسهم ذلك في انتقال سلس وإذا كان اللاعبون المؤثرون من القوى القديمة تعثر الإصلاح.
إن مسار الانتقال يجب أن يهدف إلى بناء وتعزيز ودعم الدولة، دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى المشاركة والتمثيل الشعبي، وهو ما يدعم الاستقرار.
ثالثا: اللاعبون، وهي مجموعات مؤثرة من داخل النظام وخارجه من قوى سياسية واجتماعية واقتصادية. ومن الضروري للدولة أن تجتذب اللاعبين للمشاركة في عملية التحول حتى المتردد أو المتشكك منهم. وهذا يضع على هؤلاء (اللاعبون) مهمة التطور السياسي والايديولوجي والالتزام بالمسار الديمقراطي، ومثال ذلك الحزب الشيوعي الإسباني. كما يتطلب النجاح توافق القوى السياسية المتنافرة على مشروع الانتقال والإصلاح. ونوه إلى دور العامل الخارجي في فشل أو نجاح الانتقال أو الإصلاح فبالنسبة لإسبانيا، فقد لعب الاتحاد الأوروبي دورا حاسما في ظل فرانكو في الضغط على النظام الدكتاتوري من ناحية وتشجيع الإصلاحات ودعم قوى التغيير من ناحية أخرى، ثم قدم الدعم الواسع في مرحلة ما بعد الدكتاتور لتأهيل إسبانيا الديمقراطية لعضوية الاتحاد.
واستعرض خايما تجربة الإصلاحات المتعثرة والفاشلة في أكثر من بلد عربي، وذكر تجربة العلمنة والتحديث التي قادتها الأنظمة الوطنية والقومية المدنية والعسكرية والتي فشلت لأنها لم تستند إلى قاعدة جماهيرية، واقترنت بالاستبداد والفساد والتغريب. كما عرض تعثر التجربة التركية سابقا بسبب هيمنة العسكر في مفارقة مع نجاح التجربة الحالية في تركيا للتحديث والديمقراطية في ظل حكم ديمقراطي بقيادة حزب العدالة والتنمية، وهو حزب إسلامي أقرب إلى ضمير الشعب التركي وشخصيته وتاريخه، وفي الوقت ذاته فهو حزب يؤمن بالتحديث والعلمانية. ونوه إلى أهمية التجربة التركية للعالم العربي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1748 - الثلثاء 19 يونيو 2007م الموافق 03 جمادى الآخرة 1428هـ