في مجتمع مسيّس حتى النخاع، يصبح التعيير بكلمة «التسييس» أشبه بمدح لاعب الكرة على تسجيل الأهداف!
التسييس في مجتمع مسيّس ليس عارا، ويجب ألاّ يتخذ اتجاها من المناكفة لتحريف الموضوعات عن سكتها الصحيحة.
ما نفهمه هو ان المجتمع مكون من فئات وطبقات واتجاهات مختلفة، لكل منها مصالح معينة، ومن حقّها الدفاع عنها بصورة سلمية، بحيث لا تكون على حساب مصالح الآخرين، ولا تصطدم مع المصلحة العامة للوطن. أما إذا تحرّكت مجموعة أو فئة من المواطنين للدفاع عن مصالحها أو تحسين معيشتها أو دفع الضرر عن نفسها، فليس من الصحيح اتهامها بالتسييس.
هذه الكلمة الفضفاضة أصبحت ممسحة غبار لكل من أراد أن يسكت خصمه أو يقمع منافسه، أو حتى يدافع عن ضعف حجته. كلمة ابتذلت حتى فقدت معناها من كثرة الاستخدام، وآن الأوان لوضعها على الرف.
الأمثلة كثيرة، وهي أكثر ورودا في الكتابات اليومية، إذ يلجأ إليها البعض للدفاع عن وجهات النظر الحكومية، فما أسهل أن تتهم الطرف الآخر بأنه «سيّس» موضوعا ما لتسقط حقه في النقاش.
من آخر الموضوعات التي أثارت نقاشا واسعا في الشارع، موضوع «التأمين على التعطل»، وهو مشروعٌ حيويٌ ما فتئ العمّال يطالبون به منذ أكثر من عشرين عاما، حتى انتهى في صيغة مرسوم عرض على البرلمان، وصوتت عليه الغالبية من مختلف الكتل. وبعد إقراره بأسابيع بدأ طرح بعض الإشكالات المرتبطة أساسا بجانبين: عدم الثقة الناتجة عن قضية التأمينات؛ وما بدا تمييزا في الاستقطاع بين المواطنين (مدنيين وعسكريين، ونوابا وبلديين)، وبدل الحصول على إجابات مقنعة انتقل النقاش إلى جوانب شرعية وفقهية، ما زاد الموضوع تعقيدا. والأدهى إقحام مصطلحات دينية بعيدة من قبيل «الهبة» و«الفحوى» في مفهوم اقتصادي معاصر، فكان أشبه بمن أراد أن يكحّلها فعماها. ولكي نكون أكثر دقة، فإن للمفهوم جذورا عميقة في حضارتنا الإسلامية، يمكن لمن أراد أن يربطه بسهولة بجانب التكافل الاجتماعي، والاستشهاد بقصص عدة من سيرة الخلفاء الراشدين في فجر الإسلام.
الإشكال ليس هنا، إنما الإشكال هو في طريقة إدارة الحوار بين الأطراف في هذا الشأن، بحيث بدا كل طرفٍ يطرح ما يراه وغير مستعد لسماع رأي الطرف الآخر في القضية. هناك التباس كبير في الموضوع، وهذا الالتباس يحتاج إلى نقاش مفتوح من دون مصادرة أو قمع للآراء. نحن في الصحافة أيضا معنيون، فقد شاركنا في النقاش ويهمنا أن نفهم الجانب الآخر الذي لا نراه من الموضوع، ونتوصّل إلى فهم مشترك يخدم الشعب عموما. وهو ما لا يمكن أن يتحقّق عندما نغلق عقولنا عن سماع الرأي الآخر، وينطبق ذلك على الجانبين الرسمي والأهلي، خصوصا أن المشروع لم يأت من فراغ، وإنما جاء نتيجة كفاح طويل، تتويجا لمعاناة كبيرة لا يعرفها من لم يذق طعم التعطّل في حياته، ولم يدرك معنى أن تمشي في الشارع وجيبك خالٍ حتى من نصف دينار لشراء خبزٍ لعيالك، ولا معنى أن تقطع مشوارا بالكيلومترات لأنك لا تملك مئتي فلس ثمن تذكرة النقل العام، ولا أن تعود إلى منزلك وأنت لا تملك ثمن العشاء.
الموضوع كما ترون يحتاج إلى نقاش، وهو ما لن يتحقق إذا صادرنا الرأي الآخر، أو اتهمنا المتصدين للنقاش بأن لهم أهدافا سياسية للطعن بالمشروع كما صرح وزير العمل. فمادام هناك ثغرات وملاحظات، فدعوا الناس تناقشها، فربما يتوصلون إلى مقترحات مفيدة تحسّن المشروع، فربما عجز واضع المشروع عن الاهتداء إليها.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1747 - الإثنين 18 يونيو 2007م الموافق 02 جمادى الآخرة 1428هـ