في الحالات الاقتصادية الصحية غالبا ما يعكس اتجاه الأموال نحو الخارج تشبعا في الاقتصاد المحلي، لكن الأمر يختلف عند الحديث عن الوضع العربي، إذ يحتاج الاقتصاد العربي إلى الأموال العربية المهاجرة بشدة أو على أقل تقدير إلى بعضها. فالدول العربية تدخل ضمن أقل دول العالم جذبا للاستثمارات وتدخل أيضا ضمن أكثر الدول طردا لها. فوفقا لتقديرات مجلس الوحدة الاقتصادية في تقريره الصادر العام 2000 بلغ أعلى معدل للتدفق الاستثماري الأجنبي المباشر في الدول العربية 9.5 مليارات دولار بنسبة لا تتجاوز 1في المئة (معظمها في مجال النفط) من إجمالي الاستثمارات العالمية التي تقدر بـ 865 مليار دولار، وبنسبة 4.2 في المئة من جملة الاستثمارات العالمية في الدول النامية والبالغة 207 مليارات دولار، وفي المقابل استقطبت الصين وحدها في العام نفسه حوالي 70 مليار دولار. ولذلك كان العمل على استقطاب تلك الاستثمارات أو على الأقل استعادة بعضها كفيلا بتحسين صورة الاقتصاد العربي المشوهة التي يكفي للدلالة عليها أن نشير فقط إلى الحقائق الاقتصادية الآتية استنادا إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد للعام 2001:
@ بلغت الفجوة الغذائية العربية 20 مليار دولار طبقا لتقديرات مجلس الوحدة الاقتصادية العربية العام 2001 وتزداد تبعا للمصدر نفسه بواقع 3 في المئة سنويا.
@ وصل عدد العاطلين عن العمل في العالم العربي إلى 18 مليون نسمة من مجموع القوى العاملة البالغة 98 مليون نسمة ومن جملة السكان الذين بلغوا 280 مليون نسمة العام 2001.
@ يعيش حوالي 62 مليون عربي أي ما نسبته 22 في المئة من جملة السكان على دولار واحد فقط في اليوم.
@ يعيش 145 مليون عربي أي قرابة 52 في المئة من تعداد السكان العرب، على دخل يومي يتراوح ما بين 2 و5 دولارات.
@ يعيش الملايين من العرب تحت خط الفقر بمن فيهم أبناء دول مجلس التعاون الخليجي حيث يعيش حوالي1 في المئة من السكان تحت خط الفقر، وتتراوح النسبة في الدول الأخرى بين 6 في المئة في تونس و57 في المئة في موريتانيا.
@ ارتفعت وفقا لتقديرات الجامعة العربية، الديون العربية إلى أكثر من 155 مليار دولار تمثل مديونية 13 دولة عربية، فيما تؤكد دراسة اقتصادية حديثة أن سداد أعباء خدمة هذه الديون الخارجية صارت تمثل هي الأخرى مشكلة خطيرة تواجهها الدول العربية، وذلك بعد أن بلغت مليار دولار سنويا، فيما بلغت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي 200 في المئة في بعض الأقطار العربية.
@ يقدر المدير العام لمنظمة العمل العربية إبراهيم قويدر عدد العاطلين عن العمل في الدول العربية حاليا بنحو 12 مليون شخص، مشيرا إلى أن معدل البطالة في الدول العربية ـ مجتمعة ـ بلغ 14 في المئة، وهي نسبة مرتفعة للغاية وفي ازدياد. هذه الظواهر وأخرى غيرها ترفع علامة الاستفهام الطبيعية: ما الذي يدفع أصحاب الثروات العربية إلى تهجير أموالهم إلى الخارج؟ وما الأسباب التي تدفع الأموال العربية لمواصلة الهجرة على رغم الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها الكثير من الدول العربية منذ الثمانينات وطوال عقد التسعينات، التي بموجبها هيأت المناخ الاستثماري لجذب الأموال العربية المهاجرة والاستثمارات الأجنبية؟ لقد تعرضت الكثير من الدراسات البحثية التي أجريت طوال العقود الماضية لمعوقات الاستثمار في العالم العربي، وتخصص المؤسسة العربية لضمان الاستثمار - ومقرها الكويت وهي تابعة إلى جامعة الدول العربية - سنويا تقريرا يرصد المصاعب التي يواجهها المستثمرون في الدول العربية، وهي معوقات معروفة ومحددة منذ سنوات، ولا تختفي، وهي محصورة - كما تراها المؤسسة العربية لضمان الاستثمار - بين معوقات تشريعية أو معوقات جمركية وتعقيدات بيروقراطية. وعلى رغم أن الكثير من الدول العربية طورت كثيرا من قوانينها وقلصت الكثير من صور البيروقراطية - فإن المصاعب والتعقيدات لاتزال موجودة، وكما يرى الكثير من الاقتصاديين فإن ظروف الاستثمار في الدول العربية كافة ليست مشجعة على جذب الأموال المهاجرة في ظل عدم الرغبة الحكومية الحقيقية في الإصلاح، وتعثر الكثير من برامج الإصلاح الاقتصادي في الكثير من الدول العربية، علاوة على تغلغل الفساد وخراب ذمم الموظفين الحكوميين المكلفين تنفيذ برامج الإصلاح، وفشل قوانين الاستثمار في توفير المناخ الملائم لجذب الأموال. لذلك فإن قدرة أسواق المال العربية على استعادة هذه الأموال المهاجرة تحتاج، إلى جانب إزالة أسباب معوقات الاستثمار السابقة، إلى فترة زمنية تشعر فيها الأموال المهاجرة بحتمية العودة إلى الاستثمار داخل الوطن.
وهناك من الاقتصاديين من يرى أن المطالبة بعودتها الآن ربما يكون فيه من العاطفة أكثر من النظرة الاقتصادية على رغم ما في هذه المطالبة من أهمية إستراتيجية، ويؤكد ضرورة اختيار التوقيت المناسب للعودة حتى تستعيد تلك الأموال بعضا مما خسرته خلال العامين الماضيين.
وإلى أن يأتي هذا التوقيت المناسب فإنه لا أحد يستطيع حث هذه الأموال على العودة إلى أوطانها مرة أخرى أكثر من الحكومات العربية التي بيدها الخيوط التشريعية والاقتصادية والمناخ السياسي المستقر والمطلوب.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1747 - الإثنين 18 يونيو 2007م الموافق 02 جمادى الآخرة 1428هـ