هنا في الكويت، و بعنوان العمود ذاته «مدن الدم» عنونت صحيفة «الجريدة» مانشيت الصفحة الأولى في إشارة إلى الحوادث الدامية التي شهدتها ثلاث مدن عربية (بغداد، غزة، بيروت). وعلى الجانب الأيمن من الصفحة ذاتها، وبالبنط العريض، كتب المحرر «موجة عنف جديدة هزت أمس العراق ولبنان وفلسطين... يرتكبها العرب بحق أنفسهم فتجعلهم يغرقون في دمهم».
قد نتفق مع ما ذكرته «الجريدة» من ناحية الصوغ الخبري للموضوع، إلا أن خروج المحرر فيما يتعلق بالفاعل بأن العرب يرتبكون الجريمة، هذا يسمى تسطيحا للأمر، ونائحة وتثبيطا وجلدا للذات مبالغ فيه، بدأ في الكويت بعد غزو النظام العراقي، وإعادة الاحتلال للمنطقة تحت مظلة أمنية أميركية. كما يعتبر تجاوزا لفاعلية الموازين الدولية على الساحة العربية.
مسألة إسالة الدم العربي بأيدي العرب تحتاج إلى دراسة معمقة للموازين الدولية، وليس الابتسار المخل للمعنى، والمغيب للدور الإقليمي والدولي على الساحة العربية، خصوصا في «مدن الدم» التي أشارت إليها «الجريدة».
اثناء عقد جلسات اتفاق مكة والذي كان برعاية سعودية من لدن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كان هناك تيار في فتح يمثله «دحلان»، المرضي عنه والمدعوم أميركيا، يرفض الوصول إلى اتفاق نهائي مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) صاحبة الأكثرية البرلمانية، في انتخابات وصفت بأنها الأكثر ديمقراطية في العالم العربي، وحاول «دحلان» أكثر من مرة إجهاض الاتفاق ووأده فيما بعد. إلا أن إصرار وحزم العاهل السعودي أجهض «التخريب الدحلاني».
المجرب، أن سياسة الإدارة الأميركية (الحالية) تدعم الفاسدين في الوطن العربي بشتى تلاوينهم وأصنافهم، ولا يوجد فاسد إلا ويحصل على الدعم الكامل من أميركا. فالإدارة الأميركية تعلم أنه ما من أحد يقف مع مشروعاتها التخريبية في الوطن العربي إلا فاسد فسادا محضا. وهذا الحال ينطبق على الوضع في «غزة». فاللاعب الأميركي يطل بوجهه القبيح في «مدن الدم» الثلاث... بل وفي غيرها من مدن تدعم أميركا اللا شرعية بحجج واهية، منها دعمها لتزوير الانتخابات ومخرجات العملية التشريعية في أكثر من بقعة عربية. لذلك لم يكن غريبا دعمها انقلاب السلطة الفلسطينية الفتحاوية على صاحبة الأكثرية «حماس».
وكالات الأنباء طارت بخبر مصور عن قيام جنود بريطانيين بزراعة ألغام في إحدى طرقات البصرة. ولغاية اليوم لم نسمع عن محاكمات جرت لهؤلاء الجنود، لماذا؟! لعل في الإجابة يكمن سر التفجيرات الماثلة اليوم في العراق! وحتى إن كان من قام بتلك التفجيرات الجماعات السنية أم الشيعية فلا شك إنها مخترقة بعلمها أم من دون ذلك، وتلك مصيبة! ولكن حادثة الجنود البريطانيين وغيرها من روايات للناس العاديين في العراق تؤكد وجود أصابع الاحتلال وأذنابه لما يجري من تفجيرات بين المسلمين.
بيروت كان لها أرث تدخلي أجنبي وكانت مسرحا للاعبين الأجانب، ولا تخطئ العين هذا التدخل، حتى وإن تدثر بعباءة الاتفاقات والتوافق الداخلي بين القوى السياسية والاجتماعية في لبنان.
قراءة الساحة السياسية بلا تضمين دقيق لمعادلات الأطراف الدولية هو تسطيح غائص حد الركب وتغييب لفهم تركيبة النزاعات الداخلية، وعلى الأخص القائمة على التوازنات الدولية في المنطقة.
ما يجري على الساحة العربية يعيد إلى الأذهان نظرية الصهيوني «هركابي» وخلاصتها تفجير الأوضاع في الدول العربية من الداخل... والعلاقة الحميمية بين صقور الإدارة الأميركية والصهيونية المتطرفة لا تحتاج من المتتبع العادي للحوادث، فضلا عن المحترف، إلى جهد لإثبات وبيان تطبيقاتها على الساحة العربية. ليست نظرية المؤامرة ولكنه الواقع الذي يؤكد على سياسة دعم الفاسدين التي تمارسها أميركا، وواقع مأخوذ من دراساتهم وأبحاثهم عن المنطقة... وحوادث جارية على الساحة العربية لا تراها الأعين التي لا تريد أن ترى الحقائق، أو تلك التي ملئت بالدولارات!
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1746 - الأحد 17 يونيو 2007م الموافق 01 جمادى الآخرة 1428هـ