جلسة مجلس وزراء الخارجية العرب التي عُقِدَت بصورة طارئة واستثنائية في القاهرة الجمعة الماضي تعد محطة تاريخية في منحدر السقوط نحو الهاوية. فالجلسة تاريخية فعلا لا من حيث أهمية الموضوعات التي تطرقت إليها بل من حيث خطورة القضايا التي ناقشتها.
جدول أعمال الجلسة اشتمل على نقاط غير تقليدية في مضمونها. وناقش المجتمعون خلافاتٍ ليست مع الولايات المتحدة و «إسرائيل» وغيرها من قضايا مصيرية تمس الأمة وتهدد وجودها كما كانت العادة سابقا. المجتمعون ناقشوا قضايا خلافية داخلية أخذت تزعزع الثوابت وتطلق شرارات فتن أهلية وسياسية تهدد القضية الفلسطينية والكيان اللبناني.
الاجتماع الطارئ الذي عُقِدَ في القاهرة الجمعة الماضي سيدخل تاريخ المنطقة من حيث كونه يشكل مقدمة ميدانية في اختلاف الأولويات. وعلى رغم أن المجتمعين اتخذوا مواقفَ واضحة في دعم الشرعيتين الفلسطينية واللبنانية واتفقوا على تشكيل لجان تحقيق لتقصي الحقائق ومعرفة وقائع ما يحصل في غزة وبيروت، فإن الاجتماع يعد علامة فارقة في مرحلة تشهد ذاك الانقلاب على الأولويات.
الجلسة محطة زمنية في جدول الانقلاب على الأولويات. فبعد أن كانت الجلسات السابقة تبحث في موضوع شكوى لبنانية ضد الاعتداءات الإسرائيلية وما يحيط بها من تقصير في تطبيق الالتزامات العربية، بحثت جلسة الجمعة الماضي شكوى لبنانية ضد التدخلات السورية ودور النظام وشبكاته في إشعال الاضطرابات وتنفيذ الاغتيالات ضد رموز المعارضة والمخالفين لسياسة دمشق.
الشكوى اللبنانية إذا ضد سورية لا «إسرائيل». والدولة في لبنان طالبت الدول العربية بتوفير الحماية من نظام قرر إغراق البلد في فوضى أمنية حتى يستسلم أو يتراجع ويتقبل تلك الشروط والإملاءات.
لم يقتصر الانقلاب على الأولويات في الشأن اللبناني بل امتد ليشمل القضية المركزية: فلسطين. الشكوى الفلسطينية أيضا لم تكن موجهة ضد تل أبيب وإنما ضد الشريك الثاني في السلطة الذي اتُّهِم بالانقلاب على المبادرة العربية و «تفاهم مكة» وقاد حركة عسكرية «انفصالية» شطرت السلطة إلى نصفين: غزة والضفة.
ما حصل في القاهرة الجمعة الماضي يعد محطة تاريخية في زمن الانحطاط السياسي العربي الذي وصل إلى مرتبة من التخلف لم يعد بإمكان حتى جامعة الدول العربية التدخل لوقف انهيارها. ماذا تستطيع مثلا أن تفعل الجامعة في الشأن اللبناني في وقت تدعي فيه الحكومة على دمشق وحكومة دمشق تنفيها وتردها وتؤكد بطلانها؟ وماذا تستطيع أيضا أن تفعل الجامعة في الشأن الفلسطيني في وقت تتفاخر «حماس» بأنها حررت غزة من «قطعان الفساد» ولا تتردد في نشر صور يتباهى فيها ملثمون من «حماس» بحرق منزل قائد الثورة ياسر عرفات (أبوعمار) ونهبه إلى جانب نهب وحرق منزل نائبه الشهيد خليل الوزير (أبوجهاد)؟ فعلا ماذا تستطيع أن تفعل جامعة عربية تعاني ضعفا هيكليا ناجما أصلا من خلخلة سياسية في البناء العربي من المحيط إلى الخليج؟
إدارة جورج بوش لا شك في أنها بدأت تعيد النظر في حساباتها وأخذت تفكر في إعادة قراءة مسألة الفشل في العراق والمنطقة العربية. وحكومة إيهود أولمرت لا شك في أنها أخذت تقرأ من جديد استنتاجات تقرير لجنة فينوغراد بشأن إخفاقات الحرب على لبنان. ما حصل ويحصل في العراق ولبنان وفلسطين كلها مؤشرات تدل على بدء نجاح المشروع الأميركي العريض وتفرعاته الإسرائيلية. فالتداعيات التي أسفرت عنها سياسة التقويض وتكتيكات الفوضى الهدامة أو الخلاقة أخذت تؤتي ثمارها في موضوع واحد على الأقل وهو: الانقلاب على الأولويات.
مسألة «الانقلاب على الأولويات» تشكل حجر زاوية في المشروع الأميركي لأنه بكل بساطة ينقل الصراع بين الأمة والمخاطر التي تحيط بها إلى اصطراع داخلي بين أطياف الأمة وأشكالها وألوانها. وهذا بحد ذاته يؤسس سلسلة مشروعات من الحروب الصغيرة الداخلية السياسية والأهلية تؤدي في النهاية إلى تهميش الصراع مع العدو واستبداله بصراعات أخرى مع أبناء الأمة وشعوبها.
نهب وحرق
مشهد النهب والحرق الذي تفاخرت «حماس» بإنجازه في غزة وما أعقبه من مناظر سرقة محتويات منزل مؤسس فتح (عرفات) والرجل الثاني في الحركة (أبوجهاد) تعد أجمل رسالة سياسية وصلت إلى حكومة أولمرت المتهالكة. من كان يحلم في تل أبيب برؤية هذا المشهد؟ مشاهد القتل والتفجير والدمار التي لا تتوقف في لبنان من شماله إلى جنوبه ووسطه كلها تعد من أحلى الرسائل التي تمنى أولمرت أن تحصل في أحلامه، وها هي تتحقق في وقت يشد الرحال إلى واشنطن ليبحث مع جورج بوش أساليب تطوير تكتيكات «الفوضى الهدامة» لاستكمال خطة التقويض الشاملة.
كذلك مشاهد الحرق والنهب والنسف والتفجيرات والاغتيالات التي تسفح العراق من غربه إلى جنوبه ووسطه تعد هدية لا يقدر ثمنها تعطى لإدارة بوش في وقت سجلت شعبيته في الولايات المتحدة أدنى المستويات.
ماذا يعني كل هذا الخراب المخيف؟ باختصار إنها لحظة الانقلاب على الأولويات وضياع البوصلة. وحين تغيب الأولويات عن برامج السياسة تصبح التفصيلات هي القوة القادرة على تحريك العصبيات الصغيرة وترسيم حدود حراكها الاجتماعي والميداني.
غياب الأولويات في مشروع المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي ولد من دون وعي «مقاومات» أخرى ساهمت إدارة الاحتلال في استيرادها وإنتاجها وتصنيعها لتضرب عشوائيا هنا وهناك حتى تجرجر البلاد إلى فوضى وحروب أهلية وسلسلة فتن طائفية ومذهبية تحرق ما تبقى ليبقى الاحتلال وتضمحل المقاومة المشروعة والشريفة.
غياب الأولويات في المشروع اللبناني وانقسام البلاد سياسيا (طائفيا ومذهبيا ومناطقيا) إلى «8 و14 آذار» أطلق شرارات الفوضى وفتح الأبواب على مداخل ومخارج تقسيمية زادت من تعقيدات أزمةٍ يرجح أن تستمر في تداعياتها إلى نهايات سلبية وسيئة. وما يحصل الآن في الشمال سيفقد قيمته المعنوية ولن يسعف الدولة في توظيف النتاجات السياسية التي ستسفر عنها تلك الحرب المفتعلة في مخيم «نهر البارد» وضفافه. فحادث الاغتيال الذي تعرض له النائب القاضي وليد عيدو شكل ضربة استباقية لتعطيل توظيف الدولة لذاك النجاح المتوقع لها في الشمال. ومن ضرب ضربته تلك قرر سلفا توليد انقسامات أهلية سياسية بشأن تركيبة الحكومة والانتخابات الفرعية تمنع الدولة توظيف تلك «الوحدة الوطنية» التي ظهرت مؤقتا خلال معركة الدفاع في الشمال.
أما فلسطين فإن ما يحصل فيها يعد طامة كبرى لأن شراراته طاولت الرموز وقلبت الطاولة وأسست تجاذبات سياسية أطاحت بالكثير من القناعات وطرحت أسئلة وعلامات استفهام بشأن ادعاءات التمسك بالأولويات. كيف يمكن أن يقتنع المشاهد العربي بعد الآن بصحة تلك الشعارات التي تدعي البراءة وترفض الاعتراف بـ «إسرائيل» وتؤكد حق التحرير الكامل والشامل وتعد فلسطين «أرض وقف» ثم ترتكب تلك الحماقات بحق الناس ورموز الثورة؟ فهل هذه الخطوة «اضطرارية» كان لابد منها؟ وما الرسالة التي أرادت «حماس» توجيهها إلى تل أبيب وواشنطن؟ فهل المقصود دعوة إلى التفاهم والتصالح والتعايش لتتفرغ لمواجهات داخلية تنقلب فيها الأولويات رأسا على عقب؟
ربما لم يكن قصد «حماس» أن يحصل ما حصل. ولكن ما حصل يعطي فكرة سيئة عن حركة تنقلب الأولويات في برنامجها في لحظة سياسية طائشة. الأمر نفسه يمكن القياس عليه بشأن ما حصل في شمال لبنان. فالتنظيم المجهول الهوية والعنوان يدعي أنه يريد قتال «إسرائيل» وتحرير فلسطين باسم الإسلام، ولكنه فجأة ينقلب على شعاراته وينقض على جنود الجيش اللبناني ويذبحهم بالسكاكين. وعلى القياس المذكور يمكن أن نقرأ سياسة «مقاومات» تقاتل الشعب العراقي في مختلف أطيافه الأهلية وتترك الاحتلال الذي هو أساس كل المشكلات.
إنه الوعي المقلوب. الواقف على رأسه يرى الفوق من تحت والتحت من فوق فتنقلب عنده الأولويات، وتصبح المشاهد كالآتي: في العراق يحارب السنة والشيعة بعضهم بعضا ويتناسون بإرادة أو من دون إرادة الاحتلال الأميركي. وفي لبنان تتحارب الطوائف والمذاهب سياسيا وتتجاهل أن أساس الأزمات كان ذاك العدوان الذي اقترفته حكومة أولمرت ضد البلد الصغير. وفي فلسطين تتقاتل «حماس» مع «فتح» على سلطة محاصرة وجائعة ومعزولة ولا تأبه بالنتائج السلبية التي يمكن أن يتركها هذا الاصطراع على مسار القضية وتفرعاتها وروافدها وامتداداتها العربية.
الوعي المقلوب يرسم صورة خاطئة عن العالم ويرتب في العقل أولوياتٍ تؤدي إلى اقتتال الإخوة وتحييد الخصوم والتعايش مع المحتلين. وهذا النوع الجديد من السياسة طغى الجمعة الماضي على برنامج جلسة مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة. فالجلسة طارئة وفريدة واستثنائية فهي ناقشت بوضوح لحظة السقوط إلى الهاوية في زمن الانقلاب على الأولويات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1746 - الأحد 17 يونيو 2007م الموافق 01 جمادى الآخرة 1428هـ